الباحث القرآني

(p-٥٩٦)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الغاشِيَةِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ لا خِلافَ في ذَلِكَ بَيْنَ أهْلِ التَأْوِيلِ. قوله عزّ وجلّ: ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ﴾ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ﴾ ﴿عامِلَةٌ ناصِبَةٌ﴾ ﴿تَصْلى نارًا حامِيَةً﴾ ﴿تُسْقى مِن عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ ﴿لَيْسَ لَهم طَعامٌ إلا مِن ضَرِيعٍ﴾ ﴿لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ﴾ ﴿لِسَعْيِها راضِيَةٌ﴾ ﴿فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ﴾ ﴿لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً﴾ قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: "هَلْ" بِمَعْنى "قَدْ"، وقالَ الحُذّاقُ: هي عَلى بابِها تَوْقِيفٌ فائِدَتُهُ تَحْرِيكُ نَفْسِ السامِعِ إلى تَلَقِّي الخَبَرِ، وقِيلَ: المَعْنى: هَلْ كانَ هَذا مِن عِلْمِكَ لَوْلا ما عَلَّمْناكَ؟ فَفي هَذا التَأْوِيلِ تَقْرِيرُ النِعْمَةِ. و"الغاشِيَةِ": القِيامَةُ لِأنَّها تَغْشى العالَمَ كُلَّهُ بِهَوْلِها وتَغْيِيرِها لِبِنْيَتِهِ، قالَهُ سُفْيانُ وجُمْهُورٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الغاشِيَةُ: النارُ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النارُ﴾ [إبراهيم: ٥٠]، وقالَ: ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾ [الأعراف: ٤١]، فَهي تَغْشى سُكّانَها، والقَوْلُ الأوَّلُ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ﴾، والوُجُوهُ الخاشِعَةُ هى وجُوهُ الكَفّارِ، وخُشُوعُها ذُلُّها وتَغَيُّرُها بِالعَذابِ. واخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: "عامِلَةٌ ناصِبَةٌ" قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ: مَعْناهُ: عامِلَةٌ في النارِ ناصِبَةٌ فِيها والنَصَبُ: التَعَبُ؛ لِأنَّها تَكَبَّرَتْ عَنِ العَمَلِ لِلَّهِ تَعالى في الدُنْيا فَأعْمَلَها في الآخِرَةِ في نارِهِ، وقالَ عِكْرِمَةُ والسُدِّيُّ: المَعْنى: عامِلَةٌ في الدُنْيا ناصِبَةٌ يَوْمَ القِيامَةِ، فالعَمَلُ -عَلى هَذا- هو مَساعِي الدُنْيا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وابْنُ جُبَيْرٍ: المَعْنى: هي عامِلَةٌ في الدُنْيا ناصِبَةٌ فِيها. (p-٥٩٧)لِأنَّها عَلى غَيْرِ هُدًى، فَلا ثَمَرَةَ لِعَمَلِها إلّا النَصْبُ، وخاتِمَتُهُ النارُ، قالُوا: الآيَةُ في القِسِّيسِينَ وعَبَدَةِ الأوثانِ وكُلِّ مُجْتَهِدٍ في كُفْرٍ، وقَدْ ذَهَبَ هَذا المَذْهَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في تَأْوِيلِ الآيَةِ، وبَكى رَحْمَةً لِراهِبٍ نَصْرانِيٍّ رَآهُ مُجْتَهِدًا، وفي الحَدِيثِ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ ذَكَرَ القَدَرِيَّةَ فَبَكى وقالَ إنَّ فِيهِمُ المُجْتَهِدَ.» وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ -فِي رِوايَةِ شِبْلٍ- وابْنِ مُحَيْصِنٍ: "عامِلَةٌ ناصِبَةٌ" بِالنَصْبِ عَلى الذَمِّ، والناصِبُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: أذُمُّ أو أعْنِي ونَحْوُ هَذا، وقَرَأ السِتَّةُ وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، والأعْرَجُ، وطَلْحَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ والحَسَنُ: "تَصْلى" بِفَتْحِ التاءِ وسُكُون الصادِ، عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، أيِ الوُجُوهِ، وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ، وأبُو عَمْرٍو -بِخِلافٍ عنهُ- وأبُو رَجاءٍ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ -واخْتُلِفَ عن نافِعٍ وعَنِ الأعْرَجِ -: "تُصْلى" بِضَمِّ التاءِ وسُكُونِ الصادِ، وذَلِكَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن "صَلَيْتُهُ النارَ" عَلى مَعْنى أصْلَيْتُهُ فَيَكُونُ كتَضْرِبُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن أصْلَيْتُ فَيَكُونُ كَتَكَرَّمَ، قَرَأ بَعْضُ الناسِ: "تُصَلّى" بِضَمِّ التاءِ وفَتْحِ الصادِ وشَدِّ اللامِ، عَلى التَعْدِيَةِ بِالتَضْعِيفِ، حَكاها أبُو عَمْرٍو بْنُ العَلاءِ. و"الحامِيَةُ": المُسَعَّرَةُ التَوَقُّدَةِ المُتَوَهِّجَةِ. و"الآنِيَةُ": الَّتِي قَدِ انْتَهى حَرُّها،كَما قالَ تَعالى: ﴿وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤]، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى "آنِيَةٍ": حاضِرَةٌ لَهُمْ، مِن قَوْلِهِمْ: آنَ الشَيْءُ إذا حَضَرَ. واخْتَلَفَ الناسُ في "الضَرِيعِ"، فَقالَ الحَسَنُ وجَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ هو الزَقُّومُ؛ لِأنَّ اللهَ تَعالى قَدْ أخْبَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الكُفّارَ لا طَعامَ لَهم إلّا مِن ضَرِيعٍ، وقَدْ أخْبَرَ أنَّ الزَقُّومَ طَعامُ الأثِيمِ، فَذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ الضَرِيعَ هو الزَقُّومُ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الضَرِيعُ حِجارَةٌ في النارِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ وعِكْرِمَةُ: الضَرِيعُ شَبْرَقُ (p-٥٩٨)النارِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: الضَرِيعُ الشَبْرَقُ وهو مَرْعى سُوءٍ لا تُعَقِّدُ السائِمَةُ عَلَيْهِ شَحْمًا ولا لَحْمًا، ومِنهُ قَوْلُ أبِي عِيزارَةَ الهُذَلِيِّ: ؎ وحَبَسْنَ في هَزَمَ الضَرِيعِ فَكُلُّها حَدْباءُ دامِيَةُ اليَدَيْنِ حُرُودُ وقالَ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎ رَعى الشَبْرَقَ الرَيّانَ حَتّى إذا ذَوى ∗∗∗ وعادَ ضَرِيعًا بانَ مِنهُ النحائِضُ وقِيلَ: الضَرِيعُ: العَشْرَقُ، وقالَ النَبِيُّ ﷺ: « "الضَرِيعُ شَوْكٌ في النارِ"،» وقالَ بَعْضُ اللُغَوِيِّينَ: الضَرِيعُ يَبِسُ العُرْفُجِ إذا تَحَطَّمَ، وقالَ آخَرُونَ: هو رَطْبٌ العُرْفُجِ، وقالَ الزَجّاجُ: هو نَبْتٌ كالعَوْسَجِ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: الضَرِيعُ نَبْتٌ في البَحْرِ (p-٥٩٩)أخْضَرٌ مُنْتِنٌ مُجَوَّفٌ مُسْتَطِيلٌ، لَهُ نُورٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: الضَرِيعُ شَجَرٌ مِن نارٍ. وكُلُّ مَن ذَكَرَ شَيْئًا مِمّا قَدَّرْناهُ فَإنَّما يَعْنِي أنَّ ذَلِكَ مِن نارٍ ولا بُدَّ، وكُلُّ ما في النارِ فَهو نارٌ. وقالَ قَوْمٌ: ضَرِيعٌ: وادٍ في جَهَنَّمَ، وقالَ جَماعَةٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: الضَرِيعُ طَعامُ أهْلِ النارِ، ولَمْ يُرِدْ أنْ يُخَصِّصَ شَيْئًا مِمّا ذَكَرَ، وقالَ بَعْضُ اللُغَوِيِّينَ: وهَذا مِمّا لا تَعْرِفُهُ العَرَبُ، وقِيلَ: "الضَرِيعُ" الجِلْدَةُ الَّتِي عَلى العَظْمِ تَحْتَ اللَحْمِ، ولا أعْرِفُ مَن تَأوَّلَ الآيَةَ بِهَذا، وأهْلُ هَذِهِ الأقاوِيلِ يَقُولُونَ: الزَقُّومُ لِطائِفَةٍ، والضَرِيعُ لِطائِفَةٍ، والغِسْلِينُ لِطائِفَةٍ. واخْتُلِفَ في المَعْنى الَّذِي سُمِّيَ ضَرِيعًا، فَقِيلَ: هو ضَرِيعٌ بِمَعْنى مُضْرِعٍ، أيْ مُضْعِفٍ لِلْبَدَنِ مُهْزِلٍ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ في ولَدىْ جَعْفَرِ بْنِ أبِي طالِبٍ عنهُمْ: « "ما لِي أراهُما ضارِعَيْنِ" ؟» يُرِيدُ هَزِيلَيْنِ، ومِن فَعِيلٍ بِمَعْنى مُفْعِلٍ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: ؎ أمِن رَيْحانَةِ الداعِي السَمِيعِ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وأصْحابِي هُجُوعُ يُرِيدُ: السَمْعَ. وقِيلَ: ضَرِيعٍ: فَعِيلٌ مِنَ المُضارَعَةِ، أيْ لِأنَّهُ يُشْبِهُ المَرْعى الجَيِّدَ ويُضارِعُهُ في الظاهِرِ، ولَيْسَ بِهِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى وُجُوهَ أهْلِ النارِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ وُجُوهَ أهْلِ الجَنَّةِ لِيُبَيِّنَ الفَرْقَ، وقَوْلُهُ تَعالى: "لِسَعْيِها" يُرِيدُ بِهِ: لِعَمَلِها في الدُنْيا وطاعَتِها، والمَعْنى: لِثَوابِ سَعْيِها والتَنْعِيمِ عَلَيْهِ، ووَصَفَ تَعالى الجَنَّةَ بِالعُلُوِّ، وذَلِكَ يَصِحُّ مِن جِهَةِ المَسافَةِ والمَكانِ، ومِن جِهَةِ المَكانِهِ والمَنزِلَةِ أيْضًا. (p-٦٠٠)وَقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو -بِخِلافٍ عنهُما- والأعْرَجُ، وأهْلُ مَكَّةَ والمَدِينَةِ: "لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةٌ" بِضَمِّ التاءِ مِن فَوْقٍ، ورَفَعَ "لاغِيَةً"، فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ: لا تَسْمَعُ فِيها كَلِمَةً لاغِيَةً، أيْ ذاتُ لَغْوٍ، فَهي عَلى النَسَبِ، وفَسَّرَهُ بَعْضُهم عَلى مَعْنى: لا تَسْمِعُ فِيها فِئَةً أو جَماعَةً لاغِيَةً ناطِقَةً بِسُوءٍ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: "لاغِيَةً" مَصْدَرٌ كالعاقِبَةِ والجاثِيَةِ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ "لا تُسْمَعُ" بِضَمِّ التاءِ، "لاغِيًا" بِالنَصْبِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: "لا يَسْمَعُ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ مَضْمُومَةٌ "لاغِيَةٌ" بِالرَفْعِ، وهي قِراءَةُ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وعِيسى والجَحْدَرِيُّ أيْضًا. إلّا أنَّهُ قَرَأ "لاغِيَةً" بِالنَصْبِ عَلى مَعْنى: لا يَسْمَعُ أحَدٌ كَلِمَةً لاغِيَةً، مِن قَوْلِكَ أسْمَعْتُ زَيْدًا، وقَرَأ الباقُونَ ونافِعٌ -فِي رِوايَةِ خارِجَةَ - والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ سِيرِينَ، وأبُو عَمْرٍو -بِخِلافٍ عنهُ- "لا تَسْمَعُ" بِفَتْحِ التاءِ "لاغِيَةً"، بِالنُصْبِ والمَعْنى إمّا عَلى الكَلِمَةِ وإمّا عَلى الفِئَةِ، والفاعِلُ بـ "تَسْمَعُ" إمّا الوُجُوهُ، وإمّا مُحَمَّدٌ ﷺ -قالَهُ الحَسَنُ- وإنَّما أنْتَ أيُّها المُخاطَبُ عُمُومًا. و"اللَغْوُ" سَقْطُ القَوْلِ، فَذَلِكَ يَجْمَعُ الفُحْشَ وسائِرَ الكَلامِ السَفْاسَفِ الناقِصِ، ولَيْسَ في الجَنَّةِ نُقْصانٌ ولا عَيْبٌ في فِعْلٍ ولا قَوْلٍ، والحَمْدُ لِلَّهِ ولِيِّ النِعْمَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب