الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ﴾ ﴿فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ ﴿وَأكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ ﴿وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾ ﴿وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ ﴿أفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ ﴿وَإلى السَماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ ﴿وَإلى الجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ ﴿وَإلى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ ﴿فَذَكِّرْ إنَّما أنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ ﴿إلا مَن تَوَلّى وكَفَرَ﴾ ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللهُ العَذابَ الأكْبَرَ﴾ ﴿إنَّ إلَيْنا إيابَهُمْ﴾ ﴿ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾
"عَيْنٌ" في هَذِهِ الآيَةِ اسْمُ جِنْسٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ عَيْنًا مَخْصُوصَةً ذُكِرَتْ عَلى جِهَةِ التَشْرِيفِ لَها. ورَفْعُ السُرُرِ أشْرَفُ لَها، و"الأكْوابُ" أوانٍ كالأبارِيقِ لا عُرى لَها ولا آذانَ ولا خَراطِيمَ، وشَكْلُها عِنْدَ العَرَبِ مَعْرُوفٌ، و"مَوْضُوعَةٌ" مَعْناهُ: بِأشْرِبَتِها مُعَدَّةٌ و"النَمْرَقَةُ" الوِسادَةُ، ويُقالُ نِمْرِقَةٌ بِكَسْرِ النُونِ والراءِ، وقالَ زُهَيْرٌ:
؎ كُهُولًا وشُبّانًا حِسانًا وُجُوهُهم عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ونَمارِقِ
(p-٦٠١)وَ "الزَرابِيُّ" واحِدَتُها "زَرِبِيَّةٌ"، ويُقالُ بِفَتْحِ الزايِ، وهي كالطَنافِسِ لَها خَمْلٌ، قالَهُ الفَرّاءُ، وهي مُلَوِّناتٌ، و"مَبْثُوثَةٌ" مَعْناهُ: كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ.
ثُمَّ أقامَ تَعالى الحُجَّةَ عَلى مُنْكِرِي قُدْرَتِهِ عَلى بَعْثِ الأجْسادِ بِأنْ وقَّفَهم عَلى مَوْضِعِ العِبْرَةِ في مَخْلُوقاتِهِ، و"الإبِلِ" في هَذِهِ الآيَةِ هي الجِمالُ المَعْرُوفَةُ، هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ مِنَ المُتَأوِّلِينَ، وفي الجُمَلِ آياتٌ وعِبَرٌ لِمَن تَأْمَّلَ، لَيْسَ في الحَيَوانِ ما يَقُومُ مِنَ البُرُوكِ بِحَمْلِهِ سِواهُ، وهو عَلى قُوَّتِهِ غايَةٌ في الِانْقِيادِ، قالَ الثَعْلَبِيُّ في بَعْضِ التَفاسِيرِ: إنَّ فَأْرَةً جَرَتْ بِزِمامِ ناقَةٍ فَتَبِعَتْها حَتّى دَخَلَتِ الجُحْرَ فَبَرَكَتِ الناقَةُ وأدْنَتْ رَأْسَها مِن فَمِ الحَجَرِ، وكانَ شُرَيْحٌ القاضِي يَقُولُ لِأصْحابِهِ: اخْرُجُوا بِنا إلى الكُناسَةِ حَتّى نَنْظُرَ إلى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وقالَ أبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ: الإبِلُ هُنا: السَحابُ لِأنَّ العَرَبَ قَدْ تُسَمِّيها بِذَلِكَ إذْ تَأْتِي أرْسالًا كالإبِلِ، وتُزْجى كَما تُزْجى الإبِلُ، وهي في هَيْئَتِها أحْيانًا تُشْبِهُ الإبِلَ والنَعامَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ كَأنَّ السَحابَ دُوَيْنَ السَما ∗∗∗ ءِ نَعامٌ تَعَلَّقَ بِالأرْجُلِ
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو -بِخِلافٍ- وعِيسى "الإبِلَّ" بِشَدِّ اللامِ وهي السَحابُ فِيما ذَكَرَ قَوْمٌ مِنَ اللُغَوِيِّينَ والنَقّاشُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "خُلَقَتْ" بِفَتْحِ القافِ وضَمِّ الخاءِ، وقَرَأ
(p-٦٠٢)عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: "خَلَقْتُ" بِفَتْحِ الخاءِ وسُكُونِ القافِ، عَلى فِعْلِ التَكَلُّمِ، وكَذَلِكَ [رُفِعَتْ، ونُصِبَتْ، وسُطِحَتْ]، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "رُفِّعَتْ، ونُصِّبَتْ وسُطِّحَتْ" بِالتَشْدِيدِ فِيها. و"نُصِبَتْ" مَعْناهُ: أثْبَتَتْ قائِمَةً في الهَواءِ لا تَنْتَطِحُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "سُطِحَتْ"، بِتَخْفِيفِ الطاءِ وقَرَأ هارُونُ الرَشِيدُ: "سُطِّحَتْ" بِشَدِّ الطاءِ عَلى المُبالَغَةِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الأرْضَ سَطْحٌ لا كَرَةٌ، وهو الَّذِي عَلَيْهِ أهْلُ العِلْمِ، والقَوْلُ بِكُرَوِيَّتِها -وَإنْ كانَ لا يَنْقُصُ رُكْنًا مِن أرْكانِ الشَرْعِ- فَهو قَوْلٌ لا يُثْبِتُهُ عُلَماءُ الشَرْعِ.
ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِالتَذْكِيرِ بِهَذِهِ الآياتِ ونَحْوِها. ثُمَّ نَفى تَعالى أنْ يَكُونَ مُسَيْطِرًا عَلى الناسِ، أيْ قاهِرًا مُخْبِرًا لَهم مَعَ تَكَبُّرٍ مُتَسَلِّطًا عَلَيْهِمْ، يُقالُ تَسَيْطَرَ عَلَيْنا فُلانٌ، وقَرَأ بَعْضُ الناسِ: "بِمُسَيْطِرٍ" بِالسِينِ وبَعْضُهم "بِمُصَيْطِرٍ" بِالصادِ، وقَرَأ هارُونُ "بِمُسَيْطَرٍ" بِفَتْحِ الطاءِ وهي لُغَةُ تَمِيمٍ، ولَيْسَ في كَلامِ العَرَبِ عَلى هَذا البِناءِ غَيْرُ "مُسَيْطِرٍ، ومُبَيْطَرٍ، ومُبَيْقَرٍ، ومُهَيْمِنٍ"، وفي الأسْماءِ "مُدَيْبَرٍ، ومُجَيْمِرٍ"، وهو اسْمُ وادٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذانَ مُصَغَّرَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا مَن تَوَلّى وكَفَرَ﴾ قالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: "الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ، والمَعْنى: إلّا مَن تَوَلّى وكَفَرَ فَأنْتَ مُسَيْطِرٌ عَلَيْهِ، فالآيَةُ -عَلى هَذا- لا نَسْخَ فِيها، وقالَ آخَرُونَ مِنهُمْ: الِاسْتِثْناءُ مُنْفَصِلٌ، والمَعْنى: "لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ" وتَمَّ الكَلامُ، وهي آيَةُ مُوادَعَةٍ مَنسُوخَةٍ بِالسَيْفِ ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلا مَن تَوَلّى وكَفَرَ﴾ ﴿فَيُعَذِّبُهُ﴾، وهَذا هو القَوْلُ الصَحِيحُ؛ لِأنَّ السُورَةَ مَكِّيَّةٌ، والقِتالُ إنَّما نَزَلَ بِالمَدِينَةِ، و"مَن" بِمَعْنى "الَّذِي". وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وقَتادَةُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: "ألا مَن تَوَلّى" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، عَلى مَعْنى اسْتِفْتاحِ الكَلامِ، و"مَن" -عَلى هَذِهِ القِراءَةِ- شَرْطِيَّةٌ. و"العَذابَ الأكْبَرَ" عَذابُ الآخِرَةِ؛ لِأنَّهم قَدْ عُذِّبُوا في الدُنْيا بِالجُوعِ والقَتْلِ وغَيْرِهِما، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "فَإنَّهُ يُعَذِّبُهُ اللهُ".
(p-٦٠٣)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "إيابَهُمْ"، مَصْدَرٌ مِن "آبَ يَؤُوبُ" إذا رَجَعَ، وهو الحَشْرُ والرَدُّ إلى اللهِ تَعالى، وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ: "إَيّابَهُمْ" بِشَدِّ الياءِ، عَلى وزْنِ "فِعالٍ" بِكَسْرِ الفاءِ، أصْلُهُ "فَيْعالٍ"، مِن "أيَبَ" فِعْلٌ أصْلُهُ "فَيَعْلٌ"، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مِن "أوَبَ" فَيَجِيءُ "إيوابًا" وسُهِّلَتِ الهَمْزَةُ، وكانَ اللازِمُ في الإدْغامِ رَدَّها "إوّابًا"، لَكِنِ اسْتُحْسِنَتْ فِيهِ الياءُ عَلى غَيْرِ قِياسٍ.
كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [الغاشِيَةِ] والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ
.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["فِیهَا عَیۡنࣱ جَارِیَةࣱ","فِیهَا سُرُرࣱ مَّرۡفُوعَةࣱ","وَأَكۡوَابࣱ مَّوۡضُوعَةࣱ","وَنَمَارِقُ مَصۡفُوفَةࣱ","وَزَرَابِیُّ مَبۡثُوثَةٌ","أَفَلَا یَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَیۡفَ خُلِقَتۡ","وَإِلَى ٱلسَّمَاۤءِ كَیۡفَ رُفِعَتۡ","وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَیۡفَ نُصِبَتۡ","وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَیۡفَ سُطِحَتۡ","فَذَكِّرۡ إِنَّمَاۤ أَنتَ مُذَكِّرࣱ","لَّسۡتَ عَلَیۡهِم بِمُصَیۡطِرٍ","إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ","فَیُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَكۡبَرَ","إِنَّ إِلَیۡنَاۤ إِیَابَهُمۡ","ثُمَّ إِنَّ عَلَیۡنَا حِسَابَهُم"],"ayah":"وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَیۡفَ نُصِبَتۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق