الباحث القرآني

(p-٥٨٢)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الطارِقِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ لا خِلافَ بَيْنِ المُفَسِّرِينَ في ذَلِكَ. قوله عزّ وجلّ: ﴿والسَماءِ والطارِقِ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما الطارِقُ﴾ ﴿النَجْمُ الثاقِبُ﴾ ﴿إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ﴾ ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ﴿خُلِقَ مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُلْبِ والتَرائِبِ﴾ ﴿إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ﴾ ﴿يَوْمَ تُبْلى السَرائِرُ﴾ ﴿فَما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصِرٍ﴾ أقْسَمَ اللهُ تَعالى بِالسَماءِ المَعْرُوفَةِ في قَوْلِ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، وقالَ قَوْمٌ: السَماءُ هُنا المَطَرُ، والعَرَبُ تُسَمِّي سَماءً لِما كانَ مِنَ السَماءِ وتُسَمِّي السَحابَ سَماءً، قالَ الشاعِرُ: ؎ إذا نَزَلَ السَماءُ بِأرْضِ قَوْمٍ رَعَيْناهُ وإنْ كانُوا غِضابا وقالَ النابِغَةُ: ؎ كالأُقْحُوانِ غَداةَ غَبِّ سَمائِهِ ∗∗∗............ (p-٥٨٣)وَ"الطارِقِ": الَّذِي يَأْتِي لَيْلًا، وهو اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ ما يَظْهَرُ ويَأْتِي لَيْلًا، ومِنهُ «نَهى النَبِيُّ صَلّى اللهُ ﷺ الناسَ مِن أسْفارِهِمْ أنْ يَأْتِيَ الرَجُلُ أهْلَهُ طُرُوقًا،» ومِنهُ الخَيالُ، وقالَ الشاعِرُ: ؎ يا نائِمَ اللَيْلِ مُغْتَرًّا بِأوَّلِهِ ∗∗∗ إنَّ الحَوادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أسْحارا ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعالى الطارِقَ الَّذِي قُصِدَ مِنَ الجِنْسِ المَذْكُورِ وهو "النَجْمُ الثاقِبُ"، وقِيلَ: بَلْ مَعْنى الآيَةِ: والسَماءُ وجَمِيعُ ما يَطْرُقُ فِيها مِنَ الأُمُورِ والمَخْلُوقاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ -عَلى جِهَةِ التَنْبِيهِ- أجَلُّ الطارِقاتِ قَدْرًا وهو النَجْمُ الثاقِبُ. فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: وما أدْراكَ حَقُّ الطارِقِ. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في "النَجْمِ الثاقِبِ"، فَقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ ما مَعْناهُ إنَّهُ اسْمُ الجِنْسِ، لِأنَّها كُلَّها باقِيَةٌ أيْ ظاهِرَةُ الضَوْءِ: يُقالُ: ثَقَبَ النَجْمُ إذا أضاءَ، وثَقَبَتِ النارُ، كَذَلِكَ، وثَقَبَتِ الرائِحَةُ إذا سَطَعَتْ، ويُقالُ لِلْمُوقِدِ؛ اثْقُبْ نارَكَ، أيْ أضِئْها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أرادَ نَجْمًا مَخْصُوصًا وهو زُحَلُ، ووَصَفَهُ بِالثُقُوبِ لِأنَّهُ مُبْرِزٌ عَلى الكَواكِبِ في ذَلِكَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أرادَ الجَدْيَ، وقالَ بَعْضُ هَؤُلاءِ: ثَقُبَ النَجْمُ، إذا ارْتَفَعَ، فَإنَّما وُصِفَ زَحْلًا بِالثُقُوبِ لِأنَّهُ أرْفَعُ الكَواكِبِ مَكانًا، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ أيْضًا وغَيْرُهُ: النَجْمُ الثاقِبُ: الثُرَيّا، وهو الَّذِي تُطْلَقُ عَلَيْهِ العَرَبُ اسْمَ الجِنْسِ مُعَرَّفًا. (p-٥٨٤)وَجَوابُ القَسَمِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ كُلُّ نَفْسٍ﴾، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لِما" مُخَفَّفَةُ المِيمِ، قالَ الحُذّاقُ مِنَ النَحْوِيِّينَ وهُمُ البَصْرِيُّونَ: "إنْ" مُخَفِّفَةٌ مِنَ الثَقِيلَةِ، واللامُ لامُ التَأْكِيدِ الداخِلَةِ عَلى الخَبَرِ، وقالَ الكُوفِيُّونَ: "إنْ" بِمَعْنى "ما" النافِيَةُ، واللامُ بِمَعْنى "إلّا"، فالتَقْدِيرُ: ما كَلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها حافِظٌ، وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، والحَسَنُ والأعْرَجُ، وأبُو عَمْرٍو، ونافِعٌ -بِخِلافٍ عنهُما- وقَتادَةُ: "لَمّا" بِتَشْدِيدِ المِيمِ، وقالَ أبُو الحَسَنِ الأخْفَشُ: "لَمّا" بِمَعْنى "إلّا"، لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ في هُذَيْلَ وغَيْرِهِمْ، تَقُولُ أقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمّا فَعَلْتَ كَذا، أيْ: إلّا فَعَلْتَ كَذا. ومَعْنى هَذِهِ الآيَةُ، -فِيما قالَ قَتادَةُ وابْنُ سِيرِينَ وغَيْرُهُما- إنْ كُلَّ نَفْسٍ مُكَلَّفَةٌ فَعَلَيْها حافِظٌ يُحْصِي أعْمالَها ويُعِدُّها لِلْجَزاءِ عَلَيْها، وبِهَذا الوَجْهِ تَدْخُلُ الآيَةُ في الوَعِيدِ الزاجِرِ. وقالَ الفَرّاءُ: المَعْنى: عَلَيْها حافِظٌ يَحْفَظُها حَتّى يُسَلِّمَها إلى القَدَرِ، وهَذا قَوْلٌ فاسِدُ المَعْنى لِأنَّ مُدَّةَ الحِفْظِ إنَّما هي بِقَدَرٍ، وقالَ أبُو أُمامَةَ: قالَ النَبِيُّ ﷺ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ" « "إنَّ لِكُلِّ نَفْسِ حَفَظَةٌ مِنَ اللهِ تَعالى يَذُبُّونَ عنها كَما يَذُبُّ عَنِ العَسَلِ، ولَوْ وكَلَ المَرْءُ إلى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لاخْتَطَفَتْهُ الغِيَرُ والشَياطِينُ".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ تَوْقِيفٌ لِمُنْكِرِي عَلى أصْلِ الخِلْقَةِ الدالَّةِ عَلى أنَّ البَعْثَ جائِزٌ مُمْكِنٌ، ثُمَّ بادَرَ اللَفْظَ إلى الجَوابِ اقْتِضابًا وإسْراعًا إلى إقامَةِ الحُجَّةِ؛ إذْ لا جَوابَ لِأحَدٍ إلّا هَذا، "دافِقٍ" قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هو بِمَعْنى مَدْفُوقٍ، وقالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: هو عَلى النَسَبِ، أيْ: ذا دَفْقٍ، والدَفْقُ: دَفَقَ الماءُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَدَفْعِ الوادِي والسَيْلِ إذا جاءَ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ (p-٥٨٥)الماءُ دافِقًا لِأنَّ بَعْضَهُ يَدْفَعُ بَعْضًا، فَمِنهُ دافِقٌ ومِنهُ مَدْفُوقٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُلْبِ والتَرائِبِ﴾، قالَ قَتادَةُ والحَسَنُ وغَيْرُهُما: مَعْناهُ: مِن بَيْنِ صُلْبِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الرَجُلِ والمَرْأةِ وتَرائِبِهِ، وقالَ سُفْيانُ وقَتادَةُ أيْضًا وجَماعَةٌ: مِن بَيْنِ صُلْبِ الرَجُلِ وتَرائِبِ المَرْأةِ، والضَمِيرُ في "يَخْرُجُ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلْإنْسانِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلْماءِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "الصُلْبِ" بِسُكُونِ اللامِ وقَرَأ أهْلُ مَكَّةَ وعِيسى: "الصُلُبِ" بِضَمِّ اللامِ عَلى الجَمْعِ. و"التَرِيبَةُ" مِنَ الإنْسانِ: ما بَيْنَ التَرْقُوَةِ إلى الثَدْيِ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مُعَلَّقُ الحُلِيِّ عَلى الصَدْرِ، وجَمْعُ ذَلِكَ: "تَرِيبٌ"، قالَ المُثَقَّبُ العَبْدِيُّ: ؎ ومِن ذَهَبٍ يُسَنُّ عَلى تَرِيبٍ ∗∗∗ كَلَوْنِ العاجِ لَيْسَ بِذِي غُضُونِ وقالَ امْرُؤ القَيْسَ: ؎ .......... ∗∗∗ تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَجَنْجَلِ فَجَمَعَ التَرِيبَةَ وما حَوْلَها فَجَعَلَ ذَلِكَ تَرائِبَ. وقالَ مَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ "التَرائِبَ" أطْرافُ المَرْءِ، رِجْلاهُ ويَداهُ وعَيْناهُ، وقالَ مَعْمَرُ: التَرائِبُ جَمْعُ تَرِيبَةٍ وهي عُصارَةُ القَلْبِ، ومِنها يَكُونُ الوَلَدُ، وفي هَذِهِ الأقْوالِ تُحْكَمُ عَلى اللُغَةِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: التَرائِبُ مَوْضِعُ القِلادَةِ، وقالَ أيْضًا: هي ما بَيْنَ ثَدْيَيِ المَرْأةِ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هي أضْلاعُ الرَجُلِ الَّتِي أسْفَلَ الصُلْبِ، وقالَ مُجاهِدٌ: هي الصَدْرُ، وقالَ (p-٥٨٦)هِيَ التَراقِي، وقالَ: هي ما بَيْنَ المَنكِبَيْنِ والصَدْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ﴾ الضَمِيرُ في "إنَّهُ" لِلَّهِ تَعالى، واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في الضَمِيرِ في "رَجْعِهِ" فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: هو عائِدٌ عَلى الإنْسانُ، أيْ: عَلى رَدِّهِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وقالَ الضَحّاكُ: هو عائِدٌ عَلى الإنْسانُ لَكِنَّ المَعْنى: يَرْجِعُهُ ماءٌ كَما كانَ أوَّلًا، وقالَ الضَحّاكُ أيْضًا: يُرْجِعُهُ مِنَ الكِبَرِ إلى الشَبابِ، وقالَ عِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ: هو عائِدٌ عَلى الماءِ، أيْ يَرُدُّهُ في الإحْلِيلِ، وقِيلَ: في الصُلْبِ، والعامِلُ في "يَوْمَ" -عَلى هَذَيْنَ القَوْلَيْنِ الأخِيرَيْنِ- فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ يَوْمَ تُبْلى السَرائِرُ، وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ، -وَهُوَ أظْهَرُ الأقْوالِ وأبْيَنُها- اخْتَلَفُوا في العامِلِ في "يَوْمَ" فَقالَ بَعْضُهُمْ: العامِلُ "ناصِرٍ" مِن قَوْلِهِ تَعالى: "وَلا ناصِرٍ"، وقِيلَ: العامِلُ "الرَجْعُ" مِن قَوْلِهِ تَعالى: "عَلى رَجْعِهِ"، قالُوا: وفي المَصْدَرِ مِنَ القُوَّةِ بِحَيْثُ يَعْمَلُ وإنْ حالَ خَبَرانِ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَعْمُولِهِ، وقِيلَ: العامِلُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: "إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَرْجِعُهُ يَوْمَ تُبْلى السَرائِرُ"، وكُلُّ هَذِهِ الفِرَقِ فَرَّتْ مِن أنْ يَكُونَ العامِلُ "قادِرٌ"؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَظْهَرُ مِنهُ تَخْصِيصُ القُدْرَةِ في ذَلِكَ اليَوْمِ وحْدَهُ، وإذا تُؤُمِّلَ المَعْنى وما يَقْتَضِيهِ فَصِيحُ كَلامِ العَرَبِ جازَ أنْ يَكُونَ العامِلُ "قادِرٌ"، وذَلِكَ أنَّهُ قالَ: إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، أيْ: عَلى الإطْلاقِ أوَّلًا وآخِرًا وفي كُلِّ وقْتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى وخَصَّصَ مِنَ الأوقاتِ الوَقْتَ الأهَمَّ عَلى الكُفّارِ؛ لِأنَّهُ وقْتُ الجَزاءِ والوُصُولِ إلى العَذابِ، فَتَجْتَمِعُ النُفُوسُ إلى حَذَرِهِ والخَوْفِ مِنهُ. و"تُبْلى السَرائِرُ" مَعْناهُ: تُخْتَبَرُ وتَكْشَفُ بَواطِنُها، ورَوى أبُو الدَرْداءِ عَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّ السَرائِرَ الَّتِي يَبْتَلِيها اللهُ تَعالى مِنَ العِبادِ: التَوْحِيدُ والصَلاةُ والزَكاةُ والغُسْلُ مِنَ الجَنابَةِ. وصَوْمُ رَمَضانَ.» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: هَذِهِ عُظْمُ الأمْرِ. وقالَ أبُو قَتادَةَ: الوَجْهُ في الآيَةِ العُمُومُ في جَمِيعِ السَرائِرِ، ولَيْسَ يَمْتَنِعُ في الدُنْيا مِنَ المَكارِهِ إلّا بِأحَدِ الوَجْهَيْنِ: إمّا بِقُوَّةٍ في ذاتِ الإنْسانِ وإمّا بِناصِرٍ (p-٥٨٧)خارِجٍ عن ذاتِهِ، فَأخْبَرَهُ اللهُ تَعالى عَنِ الإنْسانِ أنَّهُ يَعْدَمُهُما يَوْمَ القِيامَةِ فَلا يَعْصِمُهُ مِن أمْرِ اللهِ تَعالى شَيْءٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب