الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فَلا أُقْسِمُ بِالشَفَقِ﴾ ﴿واللَيْلِ وما وسَقَ﴾ ﴿والقَمَرِ إذا اتَّسَقَ﴾ ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عن طَبَقٍ﴾ ﴿فَما لَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَإذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ﴾ ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ ﴿واللهُ أعْلَمُ بِما يُوعُونَ﴾ ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾
"لا" زائِدَةٌ، والتَقْدِيرُ: فَأُقْسِمُ، وقِيلَ: "لا" رادَّ عَلى أقْوالِ الكُفّارِ، وابْتَدَأ القَوْلَ: أُقْسِمُ، وقَسَمُ اللهِ تَعالى بِمَخْلُوقاتِهِ هو عَلى جِهَةِ التَشْرِيفِ لَها وتَعْرِيضُها لِلْعِبْرَةِ، إذِ القَسَمُ بِها مُنَبِّهٌ مِنها. و"الشَفَقُ": الحُمْرَةُ الَّتِي تَعْقُبُ غَيْبُوبَةَ الشَمْسِ مَعَ البَياضِ التابِعِ لَها في الأغْلَبِ، وقِيلَ الشَفَقُ هُنا النَهارُ كُلُّهُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: الشَفَقُ البَياضُ الَّذِي تَتْلُوهُ الحُمْرَةُ.
و"وَسَقَ" مَعْناهُ: جَمَعَ وضَمَّ، ومِنهُ الوَسْقُ، أيِ الأصْوُعُ المَجْمُوعَةُ، واللَيْلُ يَسِقُ الحَيَوانَ جُمْلَةً، أيْ يَجْمَعُها في نَفْسِهِ ويَضُمُّها، وكَذَلِكَ جَمِيعُ المَخْلُوقاتِ الَّتِي في الأرْضِ والهَواءِ مِنَ البِحارِ والجِبالِ والرِياحِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
و"اتِّساقُ القَمَرِ" كَمالُهُ وتَمامُهُ بَدْرًا، فالمَعْنى: امْتَلَأ مِنَ النُورِ.
وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وابْنُ عَبّاسٍ -بِخِلافٍ عنهُما- وأبُو جَعْفَرٍ، والحَسَنُ، والأعْمَشُ، وقَتادَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ "لَتَرْكَبُنَّ" بِضَمِّ الباءِ، عَلى مُخاطَبَةِ الناسِ، والمَعْنى: لَتَرْكَبُنَّ الشَدائِدَ، المَوْتَ والبَعْثَ والحِسابَ حالًا بَعْدَ حالٍ، أو تَكُونُ الأحْوالُ مِنَ النُطْفَةِ إلى الهَرَمِ، كَما تَقُولُ: طَبَقَةٌ بَعْدَ طَبَقَةٍ، و"عن" تَجِيءُ بِمَعْنى "بَعْدُ"، كَما تَقُولُ: "وَرِثَ المَجْدَ كابِرًا عن كابِرٍ" وقِيلَ: المَعْنى: لَتَرْكَبُنَّ هَذِهِ الأحْوالَ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، ومِنهُ قَوْلُ العَبّاسِ بْنِ عَبَدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في النَبِيِّ ﷺ:
؎ وأنْتَ لَمّا بُعِثْتَ أشْرَقَتِ الأرْ ضُ وضاءَتْ بِنُورِكَ الطُرُقُ
؎ تُنْقَلُ مِن صالِبٍ إلى رَحِمٍ ∗∗∗ إذا مَضى عالَمٌ بَدا طَبَقُ
(p-٥٧٣)أيْ قَرْنٌ مِنَ الناسِ؛ لِأنَّهُ طَبَقُ الأرْضِ، قالَ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ:
؎ إنِّي امْرُؤٌ قَدْ حَلَبْتُ الدَهْرَ أشْطُرَهُ ∗∗∗ وساقَنِي طَبَقٌ مِنهُ إلى طَبَقِ
أيْ حالٌ بَعْدَ حالٍ، وقِيلَ: المَعْنى: لَتَرْكَبُنَّ الآخِرَةَ بَعْدَ الأُولى، وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "لَيَرْكَبُنَّ" عَلى أنَّهم غَيْبٌ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: المَعْنى: لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَن قَبْلَكم. / ٥٠ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
كَما في الحَدِيثِ: « "شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِراعًا بِذِراعٍ"،» فَهَذا هو طَبَقٌ عن طَبَقٍ، ويَلْتَئِمُ هَذا المَعْنى مَعَ هَذِهِ القِراءَةِ الَّتِي ذَكَرْنا عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، ويَحْسُنُ مَعَ القِراءَةِ الأُولى، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وعَمْرُو بْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والأُسُودُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومَعْرُوفٌ والشَعْبِيُّ، وأبُو العالِيَةِ، وابْنُ وثّابٍ، وعِيسى: "لَتَرْكَبَنَّ" بِفَتْحِ الباءِ، عَلى مَعْنى: أنْتَ يا مُحَمَّدُ، فَقِيلَ: المَعْنى: حالًا بَعْدَ حالٍ مِن مُعالَجَةِ الكُفّارِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: سَماءٌ بَعْدَ سَماءٍ في الإسْراءِ، وقِيلَ: هي عِدَةٌ بِالنَصْرِ، أيْ لَتَرْكَبَنَّ أمْرَ العَرَبِ قَبِيلًا بَعْدَ قَبِيلٍ وفَتْحًا بَعْدَ فَتْحٍ كَما كانَ ووُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: المَعْنى: لَتَرْكَبَنَّ السَماءَ في أهْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ حالًا بَعْدَ حالٍ، تَكُونُ كالمَهْلِ وكالدِهانِ وتَنْفَطِرُ وتَتَشَقَّقُ، فالسَماءُ هي الفاعِلَةُ، (p-٥٧٤)وَقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: "لَيَرْكَبُنَّ" عَلى ذِكْرِ الغائِبِ، فَإمّا أنْ يُرادَ مُحَمَّدٌ ﷺ عَلى المَعانِي المُتَقَدِّمَةِ، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ يَعْنِي: نَبِيُّكم ﷺ، إمامًا، قالَ بَعْضُ الناسِ في كِتابِ النَقّاشِ مِن أنَّ المُرادَ القَمَرُ لِأنَّهُ يَتَغَيَّرُ أحْوالًا وأسْرارًا واسْتِهْلالًا.
ثُمَّ وقَفَ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ، -والمُرادُ أُولَئِكَ الكُفّارُ- بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَما لَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾، أيْ: مَن حُجَّتُهم مَعَ هَذِهِ البَراهِينِ الساطِعَةِ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يُكَذِّبُونَ" بِضَمِّ الياءِ وشَدِّ الذالِ، وقَرَأ الضَحّاكُ بِفَتْحِ الياءِ وتَخْفِيفِ الذالِ وإسْكانِ الكافِ. و"يُوعُونَ" مَعْناهُ: يَجْمَعُونَ مِنَ الأعْمالِ والتَكْذِيبِ والكُفْرِ، كَأنَّهم يَجْعَلُونَها في أوعِيَةٍ، تَقُولُ: وعَيْتُ العِلْمَ وأوعَيْتُ المَتاعَ، وجَعَلَ تَعالى البِشارَةَ في العَذابِ لَمّا صَرَّحَ بِهِ، وإذا جاءَتْ مُطْلَقَةً فَإنَّما هي مِنَ الخَيرِ.
ثُمَّ اسْتَثْنى تَعالى مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ القَوْمَ الَّذِينَ كانُوا سَبَقَ لَهُمُ الإيمانُ في قَضائِهِ. و"مَمْنُونٍ" مَعْناهُ: مَقْطُوعٌ، مِن قَوْلِهِمْ: حَبْلٌ مَنِينٌ، أيْ مَقْطُوعٌ، ومِنهُ قَوْلُ الحارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ اليَشْكُرِي:
؎ فَتَرى خَلْفَهُنَّ مِنَ الرَجْعِ والوَقْـ ∗∗∗ ـعِ مَنِينًا كَأنَّهُ أهْباءُ
يُرِيدُ غُبارًا مُتَقَطِّعًا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "مَمْنُونٍ" مُعَدَّدٌ عَلَيْهِمْ مَحْسُوبٌ مُنَغَّصٌ بِالمَنِّ.
كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [الِانْشِقاقِ] والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ
{"ayahs_start":16,"ayahs":["فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ","وَٱلَّیۡلِ وَمَا وَسَقَ","وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ","لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقࣲ","فَمَا لَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ","وَإِذَا قُرِئَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا یَسۡجُدُونَ ۩","بَلِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُكَذِّبُونَ","وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا یُوعُونَ","فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ","إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونِۭ"],"ayah":"فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق