الباحث القرآني

(p-٥٦٧)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الِانْشِقاقِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلا خِلافٍ بَيْنِ المُتَأوِّلِينَ. قوله عزّ وجلّ: ﴿إذا السَماءُ انْشَقَّتْ﴾ ﴿وَأذِنَتْ لِرَبِّها وحُقَّتْ﴾ ﴿وَإذا الأرْضُ مُدَّتْ﴾ ﴿وَألْقَتْ ما فِيها وتَخَلَّتْ﴾ ﴿وَأذِنَتْ لِرَبِّها وحُقَّتْ﴾ ﴿يا أيُّها الإنْسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ ﴿فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا﴾ ﴿وَيَنْقَلِبُ إلى أهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ ﴿وَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ وراءَ ظَهْرِهِ﴾ ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾ ﴿وَيَصْلى سَعِيرًا﴾ ﴿إنَّهُ كانَ في أهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ ﴿إنَّهُ ظَنَّ أنْ لَنْ يَحُورَ﴾ ﴿بَلى إنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيرًا﴾ هَذِهِ أوصافُ يَوْمِ القِيامَةِ، و"انْشِقاقُ السَماءِ" هو تَفَطُّرُها لِهَوْلِ يَوْمِ القِيامَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وانْشَقَّتِ السَماءُ فَهي يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٦]، وقالَ الفَرّاءُ، والزَجّاجُ، وغَيْرُهُما: هو تَشَقُّقُها بِالغَمامِ، وقالَ قَوْمٌ: تَشَقُّقُها هو تَفَتُّحُها أبْوابًا لِنُزُولِ المَلائِكَةِ وصُعُودِهِمْ في هَوْلِ يَوْمِ القِيامَةِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "انْشَقَّتْ" يَقِفُ عَلى التاءِ كَأنَّهُ يَشُمُّها شَيْئًا مِنَ الجَرِّ، وكَذَلِكَ في أخَواتِها. قالَ أبُو حاتِمٍ: وسَمِعْتُ أعْرابِيًّا فَصِيحًا في بِلادِ قَيْسٍ بِكَسْرِ هَذِهِ التاءاتِ، وهي لُغَةٌ. و"أذِنَتْ" مَعْناهُ: اسْتَمْتَعَتْ وسَمِعَتْ أمْرَهُ ونَهْيَهُ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "ما أذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ أذِنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنّى بِالقُرْآنِ"،» ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: (p-٥٦٨) ؎ صُمٌّ إذا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وإذا ذُكِرْتَ بِسُوءٍ عِنْدَهم أذِنُوا وقَوْلُهُ تَعالى: و"حُقَّتْ"، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، مَعْناهُ: وحُقَّ لَها أنْ تَسْمَعَ وتُطِيعَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: وحُقَّ لَها أنْ تَنْشَقَّ لِشِدَّةِ الهَوْلِ وخَوْفِ اللهِ تَعالى. و"مَدُّ الأرْضِ" هو إزالَةُ جِبالِها حَتّى لا يَبْقى فِيها عِوَجٌ ولا أمْتٌ، فَذَلِكَ مَدُّها، وفي الحَدِيثِ: « "إنَّ اللهَ تَعالى يَمُدُّ الأرْضَ يَوْمَ القِيامَةِ مَدَّ الأدِيمِ العُكاظِيِّ".» و"ألْقَتْ ما فِيها"، يُرِيدُ: مِنَ المَوْتى، قالَهُ الجُمْهُورُ، وقالَ الزَجّاجُ: مِنَ الكُنُوزِ، وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ ذَلِكَ يَكُونُ وقْتَ خُرُوجِ الدَجّالِ، وإنَّما تُلْقِي يَوْمَ القِيامَةِ المَوْتى. و"تَخَلَّتْ" مَعْناهُ: خَلَتْ عَمّا كانَ فِيها، أيْ لَمْ تَتَمَسَّكْ مِنهم بِشَيْءٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الإنْسانُ﴾ مُخاطَبَةٌ لِلْجِنْسِ، و"الكادِحُ": العامِلُ بِشِدَّةٍ وسُرْعَةٍ واجْتِهادٍ مُؤَثِّرٍ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "مَن سَألَ ولَهُ ما يُغْنِيهِ جاءَتْ مَسْألَتُهُ حُدُوثًا أو كُدُوحًا في وجْهِهِ يَوْمَ القِيامَةِ"،» والمَعْنى: أنَّكَ عامِلٌ خَيْرًا أو شَرًّا، وأنْتَ لا مَحالَةَ في ذَلِكَ سائِرٌ إلى رَبِّكَ لِأنَّ الزَمَنَ يَطِيرُ بِعُمْرِ الإنْسانِ، وإنَّما هو مُدَّةُ عُمْرِهِ في سَيْرٍ حَثِيثٍ إلى رَبِّهِ. وهَذِهِ آيَةُ وعْظٍ وتَذْكِيرٍ، أيْ: فَكُنْ عَلى حَذَرٍ مِن هَذِهِ الحالِ، واعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا تَجِدُهُ، وقَرَأ طَلْحَةُ: بِإدْغامِ كافِ "إنَّكَ" في كافِ "كادِحٍ"، ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ قَوْلُ الشاعِرِ: (p-٥٦٩) ؎ وما الإنْسانُ إلّا ذُو اغْتِرارٍ ∗∗∗ طَوالَ الدَهْرِ يَكْدَحُ في سَفالِ وقالَ قَتادَةُ: مَنِ اسْتَطاعَ أنْ يَكُونَ كَدْحُهُ في طاعَةِ اللهِ فَلْيَفْعَلْ، وقَوْلُهُ تَعالى: "فَمُلاقِيهِ" مَعْناهُ: فَمُلاقٍ عَذابَهُ أو تَنْعِيمَهُ. واخْتَلَفَ النُحاةُ في العامِلُ في "إذا" فَقالَ بَعْضُ النُحاةِ: العامِلُ: "انْشَقَّتْ"، وأبى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِن أئِمَّتِهِمْ، لِأنَّ "إذا" مُضافَةٌ إلى "انْشَقَّتْ"، ومَن يُجِيزُ ذَلِكَ تَضْعُفُ عِنْدَهُ الإضافَةُ ويَقْوى مَعْنى الجَزاءِ. وقالَ آخَرُونَ مِنهُمْ: العامِلُ "فَمُلاقِيهِ"، وقالَ بَعْضُ حُذّاقِهِمْ: العامِلُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ. وكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا في جَوابِ إذا"، فَقالَ كَثِيرٌ مِنَ النُحاةِ: هو مَحْذُوفٌ لِعِلْمِ السامِعِ بِهِ، وقالَ أبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ، والأخْفَشُ: هو في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الإنْسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾، أيْ: إذا انْشَقَّتِ السَماءُ فَأنْتَ مُلاقِي اللهَ تَعالى، وقِيلَ: التَقْدِيرُ: فَيا أيُّها الإنْسانُ، وجَوابُ "إذا" في الفاءِ المَقَدَّرَةِ. وقالَ الفَرّاءُ عن بَعْضِ النُحاةِ: هو "أذِنَتْ" عَلى زِيادَةِ تَقْدِيرِ الواوِ. فَأمّا الضَمِيرُ "فَمُلاقِيهِ" فَقالَ جُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ: هو عائِدٌ عَلى الرَبِّ تَعالى، فالفاءُ -عَلى هَذا- عاطِفَةٌ "مُلاقٍ" عَلى "كادِحٍ"، وقالَ بَعْضُ الناسِ: هو عائِدٌ عَلى الكَدْحِ، فالفاءُ -عَلى هَذا- هى عاطِفَةُ جُمْلَةٍ عَلى الَّتِي قَبْلَها، والتَقْدِيرُ: فَأنْتَ مُلاقِيهِ، والمَعْنى: مُلاقٍ جَزاءَهُ خَيْرًا كانَ أو شَرًّا. ثُمَّ قَسَّمَ تَعالى الناسَ إلى المُؤْمِنِ والكافِرِ، فالمُؤْمِنُونَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهم بِأيْمانِهِمْ، ومَن يُنَفَّذُ عَلَيْهِ الوَعِيدُ مِن عُصاتِهِمْ فَإنَّهُ يُعْطى كِتابَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ النارِ، وقَدْ جَوَّزَ قَوْمٌ أنْ يُعْطاهُ أوَّلًا قَبْلَ دُخُولِهِ النارَ، وهَذِهِ الآيَةُ تُرَدُّ عَلى هَذا القَوْلِ. و"الحِسابُ اليَسِيرُ" هو العَرْضُ، وأمّا مَن نُوقِشَ الحِسابَ فَإنَّهُ يَهْلَكُ ويُعَذَّبُ، كَذَلِكَ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِعائِشَةَ (p-٥٧٠)رَضِيَ اللهُ عنها، وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "مَن حُوسِبَ عُذِّبَ" فَقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: ألَمْ يَقُلِ اللهُ تَعالى: ﴿فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا﴾ الآيَةُ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: وسَلَّمَ: "إنَّما ذَلِكَ العَرْضُ، وأمّا مَن نُوقِشَ الحِسابَ فَإنَّهُ يَهْلَكُ "،» وفي الحَدِيثِ مِن طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، « " يُدْنِي اللهُ تَعالى العَبْدَ حَتّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيَقُولُ: ألَمْ أفْعَلْ بِكَ كَذا وكَذا؟ -يُعَدِّدُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ-، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: فَلِمَ فَعَلْتَ كَذا وكَذا لِمَعاصِيهِ- فَيَقِفُ العَبْدُ خَزْيانًا، فَيَقُولُ اللهُ تَعالى: سَتَرْتُها عَلَيْكَ في الدُنْيا وأنا أغْفِرُها لَكَ اليَوْمَ.» وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: سَمِعْتُ النَبِيَّ ﷺ يَقُولُ: « "اللهُمَّ حاسِبْنِي حِسابًا يَسِيرًا"، فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللهِ وما هُوَ؟ فَقالَ: "أنْ يَتَجاوَزَ عَنِ السَيِّئاتِ"»، ورَوى ابْنُ عُمَرَ، أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "مَن حاسَبَ نَفْسَهُ في الدُنْيا هَوَّنَ اللهُ تَعالى حِسابَهُ يَوْمَ القِيامَةِ".» وقَوْلُهُ تَعالى: "إلى أهْلِهِ" أيِ الَّذِينَ أعَدَّ اللهُ تَعالى لَهُ في الجَنَّةِ، إمّا مِن نِساءِ الدُنْيا وإمّا مِنَ الحُورِ العَيْنِ وإمّا مِنَ الجَمِيعِ. (p-٥٧١)والكافِرُ يُؤْتى كِتابَهُ مِن ورائِهِ لِأنْ يَدَيْهِ مَغْلُولَتانِ، ورُوِيَ أنْ يَدَهُ تُدْخَلُ مِن صَدْرِهِ حَتّى تَخْرُجَ مِن وراءِ ظَهْرِهِ فَيَأْخُذُ كِتابُهُ بِها. ويُقالُ إنَّ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ نَزَلَتا في أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الأسَدِ وفي أخِيهِ الأسْوَدِ، وكانَ أبُو سَلَمَةَ مِن أفْضَلِ المُسْلِمِينَ وأخُوهُ مِن عُتاةِ الكافِرِينَ و"يَدْعُوا ثُبُورًا" مَعْناهُ: يَصِيحُ مُنْتَحِبًا: وا ثَبُوراهُ وا حُزْناهُ ونَحْوُ هَذا مِمّا مَعْناهُ: هَذا وقْتُكَ، وأوانُكَ، أيْ احْضُرْنِي، الثُبُورُ اسْمٌ جامِعٌ لِلْمَكارِهِ كالوَيْلِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، والجَحْدَرِيُّ، وأبُو الشَعْثاءِ، والأعْرَجُ: "وَيُصَلّى" بِشَدِّ اللامِ وضَمِّ الياءِ عَلى المُبالَغَةِ. وقَرَأ نافِعٌ أيْضًا، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ أبانَ- بِضَمِّ الياءِ وتَخْفِيفِ اللامِ، وهي قِراءَةُ أبِي الأشْهَبِ، وعِيسى، وهارُونُ عن أبِي عَمْرٍو. وقَرَأ عاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وقَتادَةُ وعِيسى، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ بِفَتْحِ الياءِ عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَسَيَصْلى". وقَوْلُهُ تَعالى: "فِي أهْلِهِ" يُرِيدُ في الدُنْيا، أيْ تَمَلُّكُهُ ذَلِكَ لا يَدْرِي إلّا السُرُورَ بِأهْلِهِ دُونَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعالى، والمُؤْمِنُ إنْ سُرَّ بِأهْلِهِ لا حَرَجَ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ ظَنَّ أنْ لَنْ يَحُورَ﴾ مَعْناهُ: لَنْ يَرْجِعَ إلى اللهِ تَعالى مَبْعُوثًا مَحْشُورًا، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لَمْ أعْلَمْ ما مَعْنى "يَحُورَ" حَتّى سَمِعْتُ أعْرابِيَّةً تَقُولُ لِبُنَيَّةٍ لَها: حُورِي، أيِ ارْجِعِي. والظَنُّ هُنا عَلى بابِهِ، و"أنَّ" وما بَعْدَها تَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "ظَنَّ"، وهي "أنْ" المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقِيلَةِ، و"الحَوَرُ": الرُجُوعُ عَلى الأدْراجِ، ومِنهُ: "اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الحُورِ بَعْدَ الكُورِ". (p-٥٧٢)ثُمَّ رَدَّ اللهُ تَعالى عَلى ظَنِّ هَذا الكافِرِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "بَلى"، أيْ: يَحُورُ ويَرْجِعُ، ثُمَّ أعْلَمَهم أنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَزَلْ بَصِيرًا بِهِمْ، لا تَخْفى عَلَيْهِ أفْعالُ أحَدٍ مِنهُمْ، وفي هَذا وعِيدٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب