الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ﴾ ﴿الجَوارِ الكُنَّسِ﴾ ﴿واللَيْلِ إذا عَسْعَسَ﴾ ﴿والصُبْحِ إذا تَنَفَّسَ﴾ ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ﴾ ﴿وَما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ﴾ ﴿وَما هو عَلى الغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ ﴿وَما هو بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ ﴿إنْ هو إلا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ ﴿وَما تَشاءُونَ إلا أنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: "فَلا أُقْسِمُ"، إمّا أمْ تَكُونُ "لا" زائِدَةً، وإمّا أنْ يَكُونَ رَدَّ القَوْلِ قُرَيْشٌ في تَكْذِيبِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وقَوْلُهُمْ: إنَّهُ ساحِرٌ وكاهِنٌ ونَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ أقْسَمَ اللهُ تَعالى بِالخُنَّسِ الجَوارِ الكُنَّسِ، فَقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ ذَلِكَ الدَرارِي السَبْعَةُ، الشَمْسُ والقَمَرُ وزُحَلُ وعُطارِدُ والمِرِّيخُ والزَهْرَةُ والمُشْتَرى. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: المُرادُ الخَمْسَةُ دُونَ الشَمْسِ والقَمَرِ، وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ الكَواكِبَ تَخْنِسُ في جَرْيِها أيْ تَتَقَهْقَرُ فِيما تَرى العَيْنُ، وهو جِوارٌ في السَماءِ، وأثْبَتُ يَعْقُوبُ الياءَ في "الجَوارِي" في الوَقْفِ، وحَذَفَها الباقُونَ، وهي تَكْنُسُ في أبْراجِها، أيْ تَسْتَتِرُ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ: المُرادُ النُجُومُ كُلُّها، لِأنَّها تَخْنِسُ وتَكْنُسُ بِالنَهارِ حِينَ تَخْتَفِي، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، والنَخْعِيُّ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وجَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: المُرادُ "بِالخُنَّسِ الجَوارِ الكُنَّسِ" بَقَرُ الوَحْشِ لِأنَّها تَفْعَلُ هَذِهِ الأفْعالَ في كُنّاسِها، وهي المَواضِعُ الَّتِي تَأْوِي إلَيْها مِنَ الشَجَرِ والغَيْرانِ ونَحْوِهِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ والضَحّاكُ: هي الظِباءُ، وذَهَبَ هَؤُلاءِ في "الخَنْسِ" إلى أنَّهُ مِن صِفَةِ الأُنُوفِ لِأنَّها يَلْزَمُها الخُنَّسُ، وكَذَلِكَ هي بَقَرُ الوَحْشِ أيْضًا، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: (p-٥٥٠) ؎ سِوى بازِ بَيْضٍ أو غَزالِ صَرِيمَةٍ ∗∗∗ أغَنٍّ مِنَ الخُنْسِ المَناخِرِ تَوْأمِ "وَعَسْعَسَ اللَيْلُ" في اللُغَةِ إذا كانَ غَيْرَ مُسْتَحْكِمِ الإظْلامِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: ذَلِكَ في وقْتِ إقْبالِهِ، وبِهِ وقَعَ القَسَمُ، وقالَ عَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: ذَلِكَ عِنْدَ إدْبارِهِ وبِهِ وقَعَ القَسَمُ، ويُرَجِّحُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى بَعْدُ: "والصُبْحِ إذا تَنَفَّسَ"، فَكَأنَّهُما حالانِ مُتَّصِلانِ، ويَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ قُرْطٍ: ؎ حَتّى إذا الصُبْحُ لَها تَنَفَّسا ∗∗∗ ∗∗∗ وانْجابَ عنها لَيْلُها وعَسْعَسا وقالَ أبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ: أقْسَمَ تَعالى بِإقْبالِهِ وإدْبارِهِ مَعًا، قالَ الخَلِيلُ: يُقالُ: عَسْعَسَ اللَيْلُ وسَعْسَعَ إذا أقْبَلَ وأدْبَرَ. و"تَنَفَّسَ الصُبْحُ": اسْتَطارَ واتَّسَعَ ضَوْءُهُ، وقالَ عِلْوانُ بْنُ قَيْسٍ: ؎ ولَيْلٌ دُجى تَنَفَّسَ فَجْرُهُ لَهم ∗∗∗ بَعْدَ أنْ خالُوهُ لَنْ يَتَنَفَّسا والضَمِيرُ في "إنَّهُ" لِلْقُرْآنِ، و"الرَسُولُ الكَرِيمُ" في قَوْلِ جُمْهُورِ الناسِ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَ آخَرُونَ: هو مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في الآياتِ كُلِّها، والقَوْلُ الأوَّلُ (p-٥٥١)أصَحُّ، و"كَرِيمٍ" في هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي رَفْعَ المَذامِّ، ثُمَّ وصَفَهُ تَعالى بِقُوَّةِ مَنحِهِ اللهَ إيّاها. واخْتَلَفَ الناسُ في تَعَلُّقِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عِنْدَ ذِي العَرْشِ﴾، فَذَهَبَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ إلى تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "ذِي قُوَّةٍ"، وذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّ الكَلامَ تَمَّ في قَوْلِهِ: ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ وتَعَلَّقَ الظَرْفُ بِقَوْلِهِ: "مَكِينٍ"، ومَعْناهُ: لَهُ مَكانَةٌ ورِفْعَةٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ﴾ مَعْناهُ: مَقْبُولُ القَوْلِ مُصَدِّقٌ بِقَوْلِهِ مُؤْتَمَنٌ عَلى ما يُرْسِلُ بِهِ ويُؤَدِّيهِ مِن وحْيٍ وامْتِثالِ أمْرٍ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: "ثُمَّ" بِضَمِّ الثاءِ، وذَكَرَ اللهَ تَعالى نَفْسَهُ بِالإضافَةِ إلى عَرْشِهِ تَنْبِيهًا عَلى عِظَمِ مَلَكُوتِهِ. وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَما صاحِبُكُمْ﴾ يُرادُ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، والضَمِيرُ في "رَآهُ" جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، وهَذِهِ الرُؤْيَةُ الَّتِي كانَتْ بَعْدَ أمْرِ غارِ حِراءَ حِينَ رَآهُ عَلى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَماءِ والأرْضِ، وقِيلَ: هَذِهِ الرُؤْيَةُ الَّتِي رَآهُ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى في الإسْراءِ، وسَمّى ذَلِكَ المَوْضِعَ أُفُقًا مَجازًا، وقَدْ كانَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ رُؤْيَةٌ ثانِيَةٌ بِالمَدِينَةِ، ولَيْسَتْ هَذِهِ. ووَصَفَ تَعالى الأُفُقَ بِالمُبِينِ لِأنَّهُ كانَ في الشَرْقِ مِن حَيْثُ تَطْلُعُ الشَمْسُ، قالَهُ قَتادَةُ، وأيْضًا فَكُلُّ أُفُقٍ فَهو في غايَةِ البَيانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما هو عَلى الغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ بِالضادِ بِمَعْنى: بَخِيلٍ، أيْ: يَشِحُّ بِهِ، ولا يَبْلُغُ ما قِيلَ لَهُ ويَبْخَلُ كَما يَفْعَلُ الكاهِنُ حَتّى يُعْطى حُلْوانُهُ. وبِالضادِ هي في خُطُوطِ المَصاحِفِ كُلِّها فِيما قالَهُ الطَبَرِيُّ، وهي قِراءَةُ نافِعٍ، وعاصِمٍ، وابْنِ عامِرٍ، وحَمْزَةَ، وعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، وأبِي رَجاءٍ، والأعْرَجِ، وأبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ، وجَماعَةٍ وافِرَةٍ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وابْنُ عُمَرَ، وابْنُ الزُبَيْرِ، وعائِشَةُ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعُرْوَةُ بْنُ الزُبَيْرِ، ومُسْلِمٌ وابْنُ جُنْدُبٍ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُمْ: "بِظَنِينٍ" بِالظاءِ، أيْ بِمُتَّهَمٍ، وهَذا في المَعْنى نَظِيرُ وصْفِهِ بِأمِينٍ، وقِيلَ: مَعْناهُ: بِضَعِيفِ القُوَّةِ، مِن قَوْلِهِمْ: بِئْرٌ ظَنُونٍ إذا كانَتْ قَلِيلَةَ الماءِ، ورَجَّحَ أبُو عُبَيْدٍ قِراءَةَ الظاءِ مُشالَةً لِأنَّ (p-٥٥٢)قُرَيْشًا لَمْ تُبَخِّلْ مُحَمَّدًا ﷺ فِيما يَأْتِي بِهِ وإنَّما كَذَّبَتْهُ فَقِيلَ ما هو بِمُتَّهَمٍ. ثُمَّ نَفى تَعالى عَنِ القُرْآنِ أنْ يَكُونَ كَلامَ شَيْطانٍ، عَلى ما قالَتْ قُرَيْشٌ: إنَّ مُحَمَّدًا كاهِنٌ، و"رَجِيمٍ" مَعْناهُ مُبْعَدٍ مَرْجُومٍ بِالكَواكِبِ واللَعْنَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: "فَأيْنَ تَذْهَبُونَ" تَوْقِيفٌ وتَقْرِيرٌ، عَلى مَعْنى: أيْنَ المَذْهَبُ لِأحَدٍ عن هَذِهِ الحَقائِقِ، و"الذِكْرُ" هُنا مَصْدَرٌ بِمَعْنى التَذْكِرَةِ. ثُمَّ خَصَّصَ تَعالى مَن شاءَ الِاسْتِقامَةَ بِالذِكْرِ تَشْرِيفًا وتَنْبِيهًا وذِكْرًا لِتَكَسُّبِهِمْ أفْعالَ الِاسْتِقامَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ تَكَسُّبَ المَرْءِ عَلى العُمُومِ في اسْتِقامَةٍ وغَيْرِها إنَّما يَكُونُ مَعَ خَلْقِ اللهِ تَعالى واخْتِراعِهِ الإيمانَ في صَدْرِ المَرْءِ، ورُوِيَ أنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ فَقالَ أبُو جَهْلٍ: هَذا أمْرٌ قَدْ وُكِلَ إلَيْنا، فَإنْ شِئْنا اسْتَقَمْنا وإنْ لَمْ نَشَأْ لَمْ نَسْتَقِمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَما تَشاءُونَ إلا أنْ يَشاءَ اللهُ﴾ وفي الحَدِيثِ: « "يَقُولُ اللهُ: يا ابْنَ آدَمَ، تُرِيدُ وأُرِيدُ، فَتَتْعَبُ فِيما تُرِيدُ، ولا يَكُونُ إلّا ما أُرِيدُ".» كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [التَكْوِيرِ] والحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب