الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لِيُحِقَّ الحَقَّ ويُبْطِلَ الباطِلَ ولَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ﴾ ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكم فاسْتَجابَ لَكم أنِّي مُمِدُّكم بِألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ ﴿وَما جَعَلَهُ اللهُ إلا بُشْرى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكم وما النَصْرُ إلا مِن عِنْدِ اللهُ إنَّ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (p-١٤٢)﴿لِيُحِقَّ الحَقَّ﴾ أيْ: لِيُظْهِرَ ما يَجِبُ إظْهارُهُ وهو الإسْلامُ، ﴿وَيُبْطِلَ الباطِلَ﴾ أيِ:الكُفْرُ، ﴿وَلَوْ كَرِهَ﴾ أيْ: وكَراهِيَتُهم واقِعَةٌ، فَهي جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ الآيَةُ. "إذْ" مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ، تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ إذْ، وهو الفِعْلُ الأوَّلُ الَّذِي عَمِلَ في قَوْلِهِ: ﴿وَإذْ يَعِدُكُمُ﴾ [الأنفال: ٧]، وقالَ الطَبَرِيُّ: هي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "لِيُحِقَّ".. و"وَيُبْطِلَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَصِحُّ أنْ يَعْمَلَ فِيها "يَعِدُكُمُ" فَإنَّ الوَعْدَ كانَ في وقْتِ الِاسْتِغاثَةِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِإدْغامِ الذالِ في التاءِ، واسْتَحْسَنَها أبُو حاتِمٍ، و"تَسْتَغِيثُونَ" مَعْناهُ: تَطْلُبُونَ، ولَيْسَ يَبِينُ مِن ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ المُؤْمِنِينَ عَلِمُوا قَبْلَ القِتالِ بِكَوْنِ المَلائِكَةِ مَعَهُمْ، فَإنَّ "اسْتَجابَ" يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ في غَيْبِهِ تَعالى، وقَدْ رُوِيَ أنَّهم عَلِمُوا ذَلِكَ قَبْلَ القِتالِ، ومَعْنى التَأْنِيسِ وتَقْوِيَةِ القُلُوبِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "أنِّي" بِفَتْحِ الألِفِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو -فِي بَعْضِ ما رُوِيَ عنهُ- وعِيسى بْنُ عُمَرَ -بِخِلافٍ عنهُ- "إنِّي" بِكَسْرِ الألِفِ، أيْ: قالَ إنِّي، و"مُمِدُّكُمْ"، أيْ: مُكَثِّرُكم ومُقَوِّيكُمْ، مِن أمْدَدْتُ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "بِألْفٍ"، وقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ "بِآلُفٍ"، عَلى مَثَلِ فَلْسٍ وأفْلُسٍ فَهي جَمْعُ "ألْفٍ"، والإشارَةُ بِها إلى الآلافِ المَذْكُورَةِ في آلِ عِمْرانَ، وقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ أيْضًا "بِآلافٍ". و﴿مُرْدِفِينَ﴾ مَعْناهُ: مُتْبِعِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالمُرْدَفِينَ، المُؤْمِنِينَ، أيْ: أُرْدِفُوا بِالمَلائِكَةِ، فَـ "مُرْدَفِينَ" -عَلى هَذا- حالٌ مِنَ الضَمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿مُمِدُّكُمْ﴾. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ: المَلائِكَةُ، أيْ: أُرْدِفَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ، وهَذِهِ القِراءَةُ بِفَتْحِ الدالِ، وهي قِراءَةُ نافِعٍ وجَماعَةٍ مِن أهْلِ المَدِينَةِ وغَيْرِهِمْ. وقَرَأ سائِرُ السَبْعَةِ غَيْرَ نافِعٍ بِكَسْرِ الدالِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، ومُجاهِدٍ، والمَعْنى فِيها: تابِعٌ بَعْضُهم بَعْضًا، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ (p-١٤٣)رَضِيَ اللهُ عنهُما: "خَلْفَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ"، وهَذا مَعْنى التَتابُعِ، يُقالُ: رَدَفَ وأرْدَفَ إذا أتْبَعَ وجاءَ بَعْدَ الشَيْءِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ: مُرْدِفِينَ المُؤْمِنِينَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ: مُرْدِفِينَ بَعْضُهم بَعْضًا، ومَن قالَ: "مُرْدِفِينَ بِمَعْنى أنَّ كُلَّ مَلَكٍ أرْدَفَ مَلَكًا وراءَهُ" فَقَوْلٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَأْتِ بِمُقْتَضاهُ رِوايَةٌ. وقَرَأ رَجُلٌ مِن أهْلِ مَكَّةَ -رَواهُ عنهُ الخَلِيلُ- "مُرَدِّفِينَ" بِفَتْحِ الراءِ وكَسْرِ الدالِ وشَدِّها. ورُوِيَ عَنِ الخَلِيلِ أيْضًا أنَّها بِضَمِّ الراءِ كالَّتِي قَبْلَها وفي غَيْرِ ذَلِكَ. وقَرَأ بَعْضُ الناسِ بِكَسْرِ الراءِ مِثْلَهُما في غَيْرِ ذَلِكَ، حَكى ذَلِكَ أبُو عَمْرٍو عن سِيبَوَيْهِ، وحَكاهُ أبُو حاتِمٍ قالَ: كَأنَّهُ أرادَ: "مُرْتَدِفِينَ" فَأدْغَمَ وأتْبَعَ الحَرَكَةَ، ويَحْسُنُ مَعَ هَذِهِ القِراءَةِ كَسْرُ المِيمِ ولا أحْفَظُهُ قِراءَةً. وأنْشَدَ الطَبَرِيُّ شاهِدًا عَلى أنَّ "أرْدَفَ" بِمَعْنى: "جاءَ تابِعًا" قَوْلَ الشاعِرِ: ؎ إذا الجَوْزاءُ أرْدَفَتِ الثُرَيّا ∗∗∗ ظَنَنْتً بِآلِ فاطِمَةَ الظُنُونا والثُرَيّا تَطْلُعُ قَبْلَ الجَوْزاءِ. ورُوِيَ في الأشْهَرِ أنَّ المَلائِكَةَ قاتَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، واخْتُلِفَ -فِي غَيْرِهِ- مِن شاهِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وقِيلَ: لَمْ تُقاتِلْ يَوْمَ بَدْرٍ وإنَّما وقَفَتْ وحَضَرَتْ، وهَذا ضَعِيفٌ. وحَكى الطَبَرِيُّ «عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ في ألْفِ مَلَكٍ عَلى مَيْمَنَةِ النَبِيِّ ﷺ وفِيها أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، ونَزَلَ مِيكائِيلُ في ألْفِ مَلَكٍ في المَيسرَةِ وأنا فِيها،» وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانا في خَمْسِمِائَةٍ خَمْسِمِائَةٍ، وقالَ الزَجّاجُ: قالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ المَلائِكَةَ خَمْسَةُ آلافٍ، وقالَ بَعْضُهُمْ: تِسْعَةُ آلافٍ، وفي هَذا المَعْنى أحادِيثُ هي مُسْتَوْعَبَةٌ في كِتابِ السِيَرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما جَعَلَهُ اللهُ﴾ الآيَةُ. الضَمِيرُ في ( جَعَلَهُ ) عائِدٌ عَلى الوَعْدِ. (p-١٤٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا عِنْدِي أمْكَنُ الأقْوالِ مِن جِهَةِ المَعْنى. وقالَ الزَجّاجُ: "الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى المَدَدِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الإمْدادِ، وهَذا يَحْسُنُ مَعَ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ المَلائِكَةَ لَمْ تُقاتِلْ، وإنَّما آنَسَتْ بِحُضُورِها مَعَ المُسْلِمِينَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا عِنْدِي ضَعِيفٌ تَرُدُّهُ الأحادِيثُ الوارِدَةُ بِقِتالِ المَلائِكَةِ، وما رَأى مِن ذَلِكَ أصْحابُ النَبِيِّ ﷺ كابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وغَيْرُهُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى "الإرْدافِ" وهو قَوْلُ الطَبَرِيِّ، وهَذا أيْضًا يَجْرِي مَجْرى القَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى "الألْفِ"، وهَذا أيْضًا كَذَلِكَ لِأنَّ البُشْرى بِالشَيْءِ إنَّما هي ما لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، والبُشْرى: مَصْدَرٌ مَن بَشَرْتُ، والطُمَأْنِينَةُ: السُكُونُ والِاسْتِقْرارُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما النَصْرُ إلا مِن عِنْدِ اللهِ﴾ تَوْقِيفٌ عَلى أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وأنَّ تَكَسُّبَ المَرْءِ لا يُغْنِي إذا لَمْ يُساعِدْهُ القَدَرُ وإنْ كانَ مُطالَبًا بِالجِدِّ، كَما ظاهَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَ دِرْعَيْنِ. وهَذِهِ القِصَّةُ كُلُّها -مِن قِصَّةِ الكُفّارِ وغَلَبَةِ المُؤْمِنِينَ لَهُمْ- تَلِيقُ بِها مِن صِفاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ العِزَّةُ والحِكْمَةُ إذا تُؤُمِّلَ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب