الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهم أولِياءُ بَعْضٍ إلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسادٌ كَبِيرٌ﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وهاجَرُوا وجاهَدُوا مَعَكم فَأُولَئِكَ مِنكم وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أولى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللهِ إنَّ اللهِ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (p-٢٤٨)هَذا حُكْمٌ بِأنَّ الكُفّارَ وِلايَتُهم واحِدَةٌ، وذَلِكَ بِجَمْعِ المُوارَثَةِ والمُعاوَنَةِ والنُصْرَةِ، وهَذِهِ العِبارَةُ تَرْغِيبٌ وإقامَةٌ لِلنُّفُوسِ، كَما تَقُولُ لِمَن تُرِيدُ أنْ يَسْتَضْلِعَ: "عَدُوُّكَ مُجْتَهِدٌ"، أيْ: فاجْتَهِدْ أنْتَ. وحَكى الطَبَرِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عن قَتادَةَ أنَّهُ قالَ: أبى اللهُ أنْ يَقْبَلَ إيمانَ مَن آمَنَ ولَمْ يُهاجِرْ، وذَلِكَ في صَدْرِ الإسْلامِ، وذَلِكَ أيْضًا مَذْكُورٌ مُسْتَوْعَبٌ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرْضِ قالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولَئِكَ مَأْواهم جَهَنَّمُ وساءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ٩٧]. والَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الشَرْعِ أنَّ حُكْمَ المُؤْمِنِ التارِكِ لِلْهِجْرَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُوبِها، حُكْمُ العاصِي لا حُكْمُ الكافِرِ، وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧] إنَّما هي فِيمَن قُتِلَ مَعَ الكُفّارِ، وفِيهِمْ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "أنا بَرِيءٌ مِن مُسْلِمٍ أقامَ بَيْنَ المُشْرِكِينَ لا تَراءى نارُهُما" الحَدِيثُ عَلى اخْتِلافِ ألْفاظِهِ، وقَوْلُ قَتادَةَ إنَّما هو فِيمَن كانَ يَقُومُ مُتَرَبِّصًا يَقُولُ: مَن غَلَبَ كُنْتُ مَعَهُ، وكَذَلِكَ ذُكِرَ في كِتابِ الطَبَرِيِّ والكُشِّيِّ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا تَفْعَلُوهُ﴾ قِيلَ: هو عائِدٌ عَلى المُوارَثَةِ والتِزامِها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لا تَقَعُ الفِتْنَةُ عنهُ إلّا عن بُعْدٍ وبِوَساطَةٍ كَثِيرَةٍ، وقِيلَ: هو عائِدٌ عَلى المُؤازَرَةِ (p-٢٤٩)والمُعاوَنَةِ واتِّصالِ الأيْدِي، وهَذا تَقَعُ الفِتْنَةُ عنهُ عن قُرْبٍ فَهو آكَدُ مِنَ الأوَّلِ، ويَظْهَرُ أيْضًا عَوْدُهُ عَلى حِفْظِ العَهْدِ والمِيثاقِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: ﴿إلا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ [الأنفال: ٧٢]، وهَذا إنْ لَمْ يُفْعَلْ فَهي الفِتْنَةُ نَفْسُها، ويَظْهَرْ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ عَلى النَصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ المُسْتَنْصِرِينَ في الدِينِ، ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ مُجْمَلًا عَلى جَمِيعِ ما ذُكِرَ. والفِتْنَةُ: المِحْنَةُ بِالحَرْبِ وما أُنْجِزَ مَعَها مِنَ الغاراتِ والجَلاءِ والأسْرِ. والفَسادُ الكَبِيرُ: ظُهُورُ الشِرْكِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "كَبِيرٌ" بِالباءِ المَنقُوطَةِ بِواحِدَةٍ، وقَرَأ أبُو مُوسى الحِجازِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ بِالثاءِ مَنقُوطَةً مُثَلَّثَةً، ورَوى أبُو حاتِمٍ المَدَنِيُّ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَرَأ: "وَفَسادٌ عَرِيضٌ"»، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهم أولى بِبَعْضٍ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا﴾ الآيَةُ، آيَةٌ تَضَمَّنَتْ تَخْصِيصَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ وتَشْرِيفَهم بِهَذا الوَصْفِ العَظِيمِ. و"حَقًّا" نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ لِما قَبْلَهُ، ووَصْفُ الرِزْقِ بِالكَرِيمِ مَعْناهُ أنَّهُ لا يَسْتَحِيلُ نَجْوًا، والمُرادُ بِهِ طَعامُ الجَنَّةِ، كَذا ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ، ولازِمُ اللَفْظِ نَفْيُ المَذَمّاتِ عنهُ، وما ذَكَرُوهُ فَهو في ضِمْنِ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدُ﴾ يُرِيدُ بِهِ: مِن بَعْدِ الحُدَيْبِيَةِ وبَيْعَةِ الرِضْوانِ، وذَلِكَ أنَّ الهِجْرَةَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ كانَتْ أقَلَّ رُتْبَةً مِنَ الهِجْرَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وكانَ يُقالُ لَها: الهِجْرَةُ الثانِيَةُ، لِأنَّ الحَرْبَ وضَعَتْ أوزارَها نَحْوَ عامَيْنِ، ثُمَّ كانَ فَتْحُ مَكَّةَ، وبِهِ قالَ ﷺ: « "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ"،» وقالَ الطَبَرِيُّ: المَعْنى: مِن بَعْدِ ما بَيَّنْتُ لَكم حُكْمَ الوِلايَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَكانَ الحاجِزُ بَيْنَ الهِجْرَتَيْنِ نُزُولَ الآيَةِ، فَأخْبَرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى في هَذِهِ الآيَةِ بِأنَّهم مِنَ الأوَّلِينَ في المُؤازَرَةِ وسائِرِ أحْكامِ الإسْلامِ. (p-٢٥٠)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجاهَدُوا مَعَكُمْ﴾ لَفْظٌ يَقْتَضِي أنَّهم تَبَعٌ لا صَدْرٌ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ مِنكُمْ﴾ كَذَلِكَ، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: "مَوْلى القَوْمِ مِنهُمْ"، "وابْنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنهُمْ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأُولُو الأرْحامِ﴾ إلى آخِرِ السُورَةِ، قالَ مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: هي في المَوارِيثِ، وهي ناسِخَةٌ لِلْحُكْمِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ مِن أنْ يَرِثَ المُهاجِرِيًّ الأنْصارِيَّ، ووَجَبَ بِهَذِهِ الآيَةِ الأخِيرَةِ أنْ يَرِثَ الرَجُلُ قَرِيبَهُ وإنْ لَمْ يَكُنْ مُهاجِرًا مَعَهُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنها مالِكُ بْنُ أنَسٍ رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ في المَوارِيثِ، وهَذا فِرارٌ عن تَوْرِيثِ الخالِ والعَمَّةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي في المَوارِيثِ إلّا أنَّها نُسِخَتْ بِآيَةِ المَوارِيثِ المُبَيِّنَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي كِتابِ اللهِ﴾، مَعْناهُ: القُرْآنُ، أيْ ذَلِكَ مُثْبَتٌ في كِتابِ اللهِ، وقِيلَ: المَعْنى: في كِتابِ اللهِ السابِقِ في اللَوْحِ المَحْفُوظِ، و﴿عَلِيمٌ﴾ صِفَةٌ مُناسِبَةٌ لِنُفُوذِ هَذِهِ الأحْكامِ. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ الأنْفالِ بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب