الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها النَبِيُّ قُلْ لِمَن في أيْدِيكم مِنَ الأسْرى إنْ يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكم خَيْرًا يُؤْتِكم خَيْرًا مِمّا أُخِذَ مِنكم ويَغْفِرْ لَكم واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وَإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأمْكَنَ مِنهم واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (p-٢٤٤)رُوِيَ أنَّ الأسْرى بِبَدْرٍ أعْلَمُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ أنَّهم لَهم مَيْلٌ إلى الإسْلامِ، وأنَّهم يُؤَمِّلُونَهُ، وأنَّهم إنْ فُدُوا ورَجَعُوا إلى قَوْمِهِمُ التَزَمُوا جَلْبَهم إلى الإسْلامِ، وسَعَوْا في ذَلِكَ، ونَحْوَ هَذا الغَرَضِ، فَفي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الأسْرى في هَذِهِ الآيَةِ عَبّاسٌ وأصْحابُهُ، قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: آمَنّا بِما جِئْتَ بِهِ ونَشْهَدُ أنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلى قَوْمِنا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "مِنَ الأسْرى"، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وحْدَهُ مِنَ السَبْعَةِ: "مِنَ الأُسارى"، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ، وقَتادَةَ، ونَصْرِ بْنِ عاصِمٍ، وابْنِ أبِي إسْحاقَ، واخْتُلِفَ عَنِ الحَسَنِ بْنِ أبِي الحَسَنِ، وعَنِ الجَحْدَرِيِّ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "مِنَ لَسْرى" بِالإدْغامِ، ومَعْنى الكَلامِ: إنْ كانَ هَذا عن جِدٍّ مِنكم وعَلِمَ اللهُ مِن نُفُوسِكُمُ الخَيْرَ والإسْلامَ سَيُجْبِرُ عَلَيْكم أفْضَلَ مِمّا أُعْطِيتُمْ فِدْيَةً، وسَيَغْفِرُ لَكم جَمِيعَ ما اجْتَرَحْتُمُوهُ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "يُثِيبُكم خَيْرًا". وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أُخِذَ" بِضَمِّ الهَمْزَةِ وكَسْرِ الخاءِ، وقَرَأ شَيْبَةُ بْنُ نِصاحٍ، وأبُو حَيَوَةَ: "أخَذَ" بِفَتْحِهِما. ورُوِيَ أنَّ أسْرى بَدْرٍ افْتَدَوْا بِأرْبَعِينَ أُوقِيَّةً أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً إلّا العَبّاسَ فَإنَّهُ افْتُدِيَ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والأُوقِيَّةُ أرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وقالَ قَتادَةُ: فادَوْهم بِأرْبَعَةِ آلافٍ أرْبَعَةِ آلافٍ، وقالَ عُبَيْدَةُ السِلْمانِيُّ: كانَ فِداءُ أسْرى بَدْرٍ مِائَةَ أُوقِيَّةٍ، والأُوقِيَّةُ أرْبَعُونَ دِرْهَمًا، ومِنَ الدَنانِيرِ سِتَّةُ دَنانِيرَ، ورُوِيَ «أنَّ العَبّاسَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ قالَ: فِيَّ وفي أصْحابِي نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وقالَ حِينَ أعْطاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِن مالِ البَحْرِينِ ما قَدَرَ أنْ يُقِلَّ: هَذا خَيْرٌ مِمّا أُخِذَ مِنِّي، وأنا أرْجُو أنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي،» وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ أيْضًا إلى العَبّاسِ أنَّهُ قالَ: «فِيَّ نَزَلَتْ حِينَ أعْلَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِإسْلامِي وسَألْتُهُ أنْ يُحاسِبَنِي بِالعِشْرِينِ الأُوقِيَّةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنِّي قَبْلَ المُفاداةِ فَأبى وقالَ: "ذَلِكَ فَيْءٌ" فَأبْدَلَنِي اللهُ مِن ذَلِكَ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهم تاجَرَ بِمالِي،» ورُوِيَ عَنِ العَبّاسِ أنَّهُ قالَ: ما أوَدُّ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ ولِيَ الدُنْيا بِأجْمَعِها، وذَلِكَ أنَّ اللهَ قَدْ آتانِي مِمّا أُخِذَ مِنِّي، وأنا أرْجُو أنْ يَغْفِرَ لِي. (p-٢٤٥)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ﴾ الآيَةُ. قَوْلٌ أُمِرَ أنْ يَقُولَهُ لِلْأسْرى ويُورِدَ مَعْناهُ عَلَيْهِمْ، والمَعْنى: إنْ أخْلَصُوا فَعَلَ بِهِمْ كَذا، وإنْ أبَطَنُوا خِيانَةَ ما زَعَمُوا أنْ يُؤْتَمَنُوا عَلَيْهِ مِنَ العَهْدِ فَلا يَسُرَّهم ذَلِكَ ولا يَسْكُنُوا إلَيْهِ، فَإنَّ اللهَ بِالمِرْصادِ لَهُمُ الَّذِي خانُوهُ قَبْلُ بِكُفْرِهِمْ وتَرْكِهِمُ النَظَرَ في آياتِهِ، وهو قَدْ بَيَّنَها لَهم إدْراكًا يُحَصِّلُونَها بِهِ فَصارَ كَعَهْدٍ مُتَقَرِّرٍ، فَجُعِلَ جَزاؤُهم عَلى خِيانَتِهِمْ إيّاهُ أنْ مَكَّنَ مِنهُمُ المُؤْمِنِينَ، وجَعَلَهم أسْرى في أيْدِيهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ صِفَتانِ مُناسِبَتانِ، أيْ: عَلِيمٌ بِما يُبْطِنُونَهُ مِن إخْلاصٍ أو خِيانَةٍ، حَكِيمٌ فِيما يُجازِيهِمْ بِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأمّا تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِقِصَّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي سَرْحٍ، فَيَنْبَغِي أنْ يُحَرَّرَ، فَإنْ جُلِبَتْ قِصَّةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي سَرْحٍ عَلى أنَّها مِثالٌ كَما يُمْكِنُ أنْ تُجْلَبَ أمْثِلَةٌ في عَصْرِنا مِن ذَلِكَ فَحَسَنٌ، وإنْ جُلِبَتْ عَلى أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في ذَلِكَ فَخَطَأٌ، لِأنَّ ابْنَ أبِي سَرْحٍ إنَّما تَبَيَّنَ أمْرَهُ في يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ عُقَيْبَ بَدْرٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب