الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها النَبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلى القِتالِ إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ ﴿الآنَ خَفَّفَ اللهُ عنكم وعَلِمَ أنَّ فِيكم ضَعْفًا فَإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإنْ يَكُنْ مِنكم ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ بِإذْنِ اللهُ واللهُ مَعَ الصابِرِينَ﴾ (p-٢٣٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَرِّضِ﴾ مَعْناهُ: حُثَّهم وحُضَّهُمْ، قالَ النَقّاشُ: وقُرِئَتْ "حَرِّصْ" بِالصادِ غَيْرَ مَنقُوطَةٍ، والمَعْنى مُتَقارِبٌ، والحارِضُ -الَّذِي هو القَرِيبُ مِنَ الهَلاكِ- لَفْظَةٌ مُبايِنَةٌ لِهَذِهِ لَيْسَتْ مِنها في شَيْءٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: المَعْنى: حَرِّضْ عَلى القِتالِ حَتّى يَبِينَ لَكَ فِيمَن تَرَكَهُ أنَّهُ حُرِّضَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ غَيْرُ مُلْتَئِمٍ ولا لازِمٍ مِنَ اللَفْظِ، ونَحا إلَيْهِ الزَجّاجُ. والقِتالُ مُفْتَرَضٌ عَلى المُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ، وإنَّما تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ أمْرَ النَبِيِّ ﷺ، بِتَحْرِيضِهِمْ عَلى أمْرٍ قَدْ وجَبَ عَلَيْهِمْ مِن غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يَكُنْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ في لَفْظِ خَبَرٍ ضِمْنُهُ وعْدٌ بِشَرْطٍ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ﴾ بِمَنزِلَةِ أنْ يُقالَ: إنْ يَصْبِرْ مِنكم عِشْرُونَ يَغْلِبُوا، وفي ضِمْنِهِ الأمْرُ بِالصَبْرِ، وكُسِرَتِ العَيْنُ مِن "عِشْرُونَ" لِأنَّ نِسْبَةَ عِشْرِينَ مِن عَشْرَةٍ نِسْبَةُ اثْنَيْنِ مِن واحِدٍ، فَكَما جاءَ أوَّلُ اثْنَيْنِ مَكْسُورًا كُسِرَتِ العَيْنُ مِن عِشْرِينَ، ثُمَّ اطَّرَدَ في جُمُوعِ أجْزاءِ العَشْرَةِ، فالمَفْتُوحُ كَأرْبَعَةٍ وخَمْسَةٍ وسَبْعَةٍ فُتِحَ أوَّلُ جَمْعِهِ، والمَكْسُورُ كَسِتَّةٍ وتِسْعَةٍ كُسِرَ أوَّلُ جَمْعِهِ، هَذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وذَهَبَ غَيْرُهُ إلى أنْ "عِشْرِينَ" جَمْعُ عِشْرِ الإبِلِ، وهو وِرْدُها لِلتِّسْعِ، فَلَمّا كانَ في عَشْرَةٍ وعَشْرَةٍ عِشْرٌ وعِشٍرٌ ويَوْمانِ مِنَ الثالِثِ جُمِعَ ذَلِكَ عَلى عِشْرِينَ، كَما قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎ ............................. ∗∗∗ ثَلاثُونَ شَهْرًا في ثَلاثَةِ أحْوالِ (p-٢٣٦)لَمّا كانَ في الثَلاثِينَ حَوْلٌ وحَوْلٌ وبَعْضُ الثالِثِ. وتَظاهَرَتِ الرِواياتُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرِهِ مِنَ الصَحابَةِ بِأنَّ ثُبُوتَ الواحِدِ لِلْعَشَرَةِ كانَ فَرْضًا مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ لَمّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَطَّ الفَرْضَ إلى ثُبُوتِ الواحِدِ لِلِاثْنَيْنِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا هو النَسْخُ، لِأنَّهُ رَفْعُ حُكْمٍ مُسْتَقِرٍّ بِحُكْمٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ، وفي ضِمْنِهِ التَخْفِيفُ إذْ هَذا مِن نَسْخِ الأثْقَلِ بِالأخَفِّ، وذَهَبَ بَعْضُ الناسِ إلى أنَّ ثُبُوتَ الواحِدِ لِلْعَشَرَةِ إنَّما كانَ عَلى جِهَةِ نَدْبِ المُؤْمِنِينَ إلَيْهِ، ثُمَّ حُطَّ ذَلِكَ حِينَ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ إلى ثُبُوتِ الواحِدِ لِلِاثْنَيْنِ، ورُوِيَ أيْضًا هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: وهَذا تَخْفِيفٌ لا نَسْخٌ إذْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِفَرْضِ العَشْرَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، قالَ مَكِّيٌّ: وإنَّما هو كَتَخْفِيفِ الفِطْرِ في السَفَرِ وهو لَوْ صامَ لَمْ يَأْثَمْ وأجْزَأهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا نَظَرٌ، ولا يَمْتَنِعُ كَوْنُ المَنسُوخِ مُباحًا مِن أنْ يُقالَ: نَسْخٌ، واعْتُبِرَ ذَلِكَ في صَدَقَةِ النَجْوى، وهَذِهِ الآيَةُ التَخْفِيفُ فِيها نَسْخٌ لِلثُّبُوتِ لِلْعَشَرَةِ، وسَواءٌ كانَ الثُبُوتُ لِلْعَشَرَةِ فَرْضًا أو نَدْبًا هو حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَلى كُلِّ حالٍ، وقَدْ ذَكَرَ القاضِي ابْنُ الطَيِّبِ أنَّ الحُكْمَ إذا نُسِخَ بَعْضُهُ أو بَعْضُ أوصافِهِ أو غُيِّرَ عَدَدُهُ فَجائِزٌ أنْ يُقالَ لَهُ: نَسْخٌ، لِأنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِالأوَّلِ، وهو غَيْرُهُ، وذَكَرَ في ذَلِكَ خِلافًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والَّذِي يَظْهَرُ في ذَلِكَ أنَّ النَسْخَ إنَّما يُقالُ حِينَئِذٍ عَلى الحُكْمِ الأوَّلِ مُقَيَّدًا لا بِإطْلاقٍ، واعْتُبِرَ ذَلِكَ في نَسْخِ الصَلاةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ. (p-٢٣٧)وَقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وعاصِمٌ: "إنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ" في المَوْضِعَيْنِ بِياءٍ عَلى تَذْكِيرِ العَلامَةِ، ورَواها خارِجَةُ عن نافِعٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا بِحَسَبِ المَعْنى، لِأنَّ الكائِنَ في تِلْكَ المِائَةِ إنَّما هم رِجالٌ، فَذَلِكَ في الحَمْلِ عَلى المَعْنى كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ [الأنعام: ١٦٠] إذْ أمْثالُها حَسَناتٌ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "إنْ تَكُنْ مِنكم مِائَةٌ" بِالتاءِ في المَوْضِعَيْنِ عَلى تَأْنِيثِ العَلامَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا بِحَسَبِ اللَفْظِ والمَقْصِدِ، كَأنَّهُ أرادَ: إنْ تَكُنْ فَرِقَةٌ عَدَدُها مِائَةٌ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِالياءِ في صَدْرِ الآيَةِ، وبِالتاءِ في آخِرِها، ذَهَبَ في الأُولى إلى مُراعاةِ "يَغْلِبُوا"، وفي الثانِيَةِ إلى مُراعاةٍ "صابِرَةٌ"، قالَ أبُو حاتِمٍ: وقَرَأ الأعْرَجُ "إنْ تَكُنْ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ "مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ" وجَعَلَها كُلَّها عَلى "التاءِ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: إلّا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَإنْ يَكُنْ مِنكم ألْفٌ﴾ فَإنَّهُ لا خِلافَ في الياءِ مِن تَحْتٍ. وقَوْلُهُ: ﴿لا يَفْقَهُونَ﴾ مَعْناهُ: لا يَفْهَمُونَ مَراشِدَهم ولا مَقْصِدَ قِتالِهِمْ، لا يُرِيدُونَ بِهِ إلّا الغَلَبَةَ الدُنْياوِيَّةَ، فَهم يَخافُونَ المَوْتَ إذا صَبَرَ لَهُمْ، ومَن يُقاتِلُ لِيَغْلِبَ أو يَسْتَشْهِدَ فَيَصِيرُ إلى الجَنَّةِ أثْبَتُ قَدَمًا لا مَحالَةَ. ورَوى المُفَضَّلُ عن عاصِمٍ: "وَعُلِمَ" بِضَمِّ العَيْنِ وكَسْرِ اللامِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ، وابْنُ عَمْرٍو، والحَسَنُ، والأعْرَجُ، وابْنُ القَعْقاعِ، وقَتادَةُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ: "ضُعْفًا" بِضَمِّ الضادِ وسُكُونِ العَيْنِ. وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، وشَيْبَةُ، وطَلْحَةُ: "ضَعْفًا" بِفَتْحِ الضادِ وسُكُونِ العَيْنِ، وكَذَلِكَ اخْتِلافُهم في سُورَةِ الرُومِ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: "ضُعُفًا" بِضَمِّ (p-٢٣٨)الضادِ والعَيْنِ وذَكَرَهُ النَقّاشُ، وهي مَصادِرُ بِمَعْنًى واحِدٍ، قالَ أبُو حاتِمٍ: مَن ضَمَّ الضادَ جازَ لَهُ ضَمَّ العَيْنِ، وهي لُغَةٌ، وحَكى سِيبَوَيْهِ الضَعْفَ والضُعْفَ لُغَتانِ بِمَنزِلَةِ الفَقْرِ والفُقْرِ، حَكى الزَهْراوِيُّ عن أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ أنَّهُ قالَ: ضَمُّ الضادِ لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، وفَتْحُها لُغَةُ تَمِيمٍ ولا فَرْقَ بَيْنَهُما في المَعْنى، وقالَ الثَعالِبِيُّ في كِتابِ "فِقْهِ اللُغَةِ" لَهُ: الضَعْفُ بِفَتْحِ الضادِ في العَقْلِ والرَأْيِ، والضُعْفُ بِضَمِّها في الجِسْمِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ تَرُدُّهُ القِراءَةُ، وذَكَرَهُ أبُو غالِبِ بْنِ التَيّانِيِّ غَيْرَ مَنسُوبٍ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ ابْنُ القَعْقاعِ أيْضًا "ضُعَفاءَ" بِالجَمْعِ كَظَرِيفٍ وظُرَفاءَ، وحَكاها النَقّاشُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وقَوْلُهُ: ﴿واللهُ مَعَ الصابِرِينَ﴾ لَفْظٌ خَبَرٌ في ضِمْنِهِ وعْدٌ وحَضٌّ عَلى الصَبْرِ، ويُلْحَظُ مِنهُ وعِيدٌ لِمَن لَمْ يَصْبِرْ بِأنَّهُ يُغْلَبُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب