الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وأنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأهْلَكْناهم بِذُنُوبِهِمْ وأغْرَقْنا آلِ فِرْعَوْنَ وكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ﴾ ﴿إنَّ شَرَّ الدَوابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنهم ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهم في كُلِّ مَرَّةٍ وهم لا يَتَّقُونَ﴾
"ذَلِكَ" في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى خَبَرِ الِابْتِداءِ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: الأمْرُ ذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَقْدِيرُ: وجَبَ ذَلِكَ، والباءُ باءُ السَبَبِ.
وقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا﴾ جَزْمٌ بِـ "لَمْ" وجَزْمُهُ بِحَذْفِ النُونِ، والأصْلُ: "يَكُونُ" فَإذا دَخَلَتْ "لَمْ" جاءَ "لَمْ يَكُنْ"، ثُمَّ قالُوا: "لَمْ يَكُ" كَأنَّهم قَصَدُوا التَخْفِيفَ فَتَوَهَّمُوا دُخُولَ "لَمْ" عَلى "يَكُنْ" فَحُذِفَتِ النُونُ لِلْجَزْمِ، وحَسُنَ ذَلِكَ فِيها لِمُشابَهَتِها حُرُوفَ اللِينِ الَّتِي تُحْذَفُ لِلْجَزْمِ كَما قالُوا: "لَمْ أُبالِ"، ثُمَّ قالُوا: "لَمْ أُبْلِ" فَتَوَهَّمُوا دُخُولَ "لَمْ" عَلى "أُبالِ".
ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ الإخْبارُ بِأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ إذا أنْعَمَ عَلى قَوْمٍ نِعْمَةً فَإنَّهُ بِلُطْفِهِ ورَحْمَتِهِ لا يَبْدَأُ بِتَغَيُّرِها وتَكْدِيرِها حَتّى يَجِيءَ ذَلِكَ مِنهم بِأنْ يُغَيِّرُوا حالَهُمُ الَّتِي تُرادُ (p-٢١٨)وَتَحْسُنُ مِنهُمْ، فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ وتَلَبَّسُوا بِالتَكَسُّبِ لِلْمَعاصِي أوِ الكُفْرِ الَّذِي يُوجِبُ عِقابَهم غَيَّرَ اللهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِنِقْمَتِهِ مِنهُمْ، ومِثالُ هَذا: نِعْمَةُ اللهِ عَلى قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَكَفَرُوا ما كانَ يَجِبُ أنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ، فَغَيَّرَ اللهُ تِلْكَ النِعْمَةَ بِأنْ نَقَلَها إلى غَيْرِهِمْ مِنَ الأنْصارِ وأحَلَّ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنَّ﴾ عَطْفٌ عَلى الأُولى، و﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ لِكُلِّ وبِكُلِّ ما يَقَعُ مِنَ الناسِ في تَغْيِيرِ ما بِأنْفُسِهِمْ لا يَخْفى عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ سِرٌّ ولا جَهْرٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ الآيَةُ، الكافُ مِن "كَدَأْبِ" في هَذِهِ الآيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتّى يُغَيِّرُوا﴾، وهَذا التَكْرِيرُ هو لِمَعْنًى لَيْسَ لِلْأوَّلِ، إذِ الأوَّلُ دَأْبٌ في أنْ هَلَكُوا لَمّا كَفَرُوا، وهَذا الثانِي دَأْبُ في أنْ لَمْ تُغَيَّرْ نِعْمَتُهم حَتّى غَيَّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ، وقَدْ ذَكَرْنا مُتَعَلِّقاتِ الكافِ في الآيَةِ الأولى، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ إلى قَوْمِ هُودٍ، وصالِحٍ، ونُوحٍ، وشُعَيْبٍ، وغَيْرِهِمْ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ شَرَّ الدَوابِّ﴾ إلى ﴿يَتَّقُونَ﴾، المَعْنى المَقْصُودُ تَفْضِيلُ الدَوابِّ الذَمِيمَةِ كالخِنْزِيرِ والكَلْبِ العَقُورِ عَلى الكافِرِينَ الَّذِينَ حَتَّمَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، وهَذا الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَفْظُ، وأمّا الكافِرُ الَّذِي يُؤْمِنُ فِيما يَسْتَأْنِفُهُ مِن عُمْرِهِ فَلَيْسَ بَشَرِّ الدَوابِّ، وقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنهُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ أنَّ المَوْصُوفَ بِـ ﴿شَرَّ الدَوابِّ﴾ هُمُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ المُعاهِدُونَ مِنَ الكُفّارِ، فَكانُوا شَرَّ الدَوابِّ عَلى هَذا بِثَلاثَةِ أوصافٍ: الكُفْرِ، والمُوافاةِ عَلَيْهِ، والمُعاهَدَةِ مَعَ النَقْضِ. و"الَّذِينَ" -عَلى هَذا- بَدَلُ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ عاهَدْتَ﴾ الَّذِينَ الأُولى، فَتَكُونُ بَدَلَ الشَيْءِ مِنَ الشَيْءِ وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ، والمَعْنى -عَلى هَذا-: الَّذِينَ عاهَدْتَ فِرْقَةٌ أو طائِفَةٌ مِنهُمْ، ثُمَّ ابْتَدَأ يَصِفُ حالَ المُعاهِدِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهم في كُلِّ مَرَّةٍ﴾، والمُعاهَدَةُ في هَذِهِ الآيَةِ: المُسالَمَةُ وتَرْكُ الحَرْبِ.
وأجْمَعَ المُتَأوِّلُونَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في بَنِي قُرَيْظَةَ، وهي بَعْدُ تَعُمُّ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِفَةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ومَن قالَ: "إنَّ المُرادَ بِـ ( الدَوابِّ ) الناسُ" فَقَوْلٌ لا يَسْتَوْفِي المَذَمَّةَ، ولا مِرْيَةَ في أنَّ الدَوابَّ تَعُمُّ الناسَ وسائِرَ الحَيَوانِ، وفي تَعْمِيمِ اللَفْظَةِ في هَذِهِ الآيَةِ اسْتِيفاءُ المَذَمَّةِ، وقَوْلُهُ: ﴿فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ يَقْتَضِي أنَّ الغَدْرَ قَدْ كانَ وقَعَ مِنهم وتَكَرَّرَ ذَلِكَ. (p-٢١٩)وَحَدِيثُ قُرَيْظَةَ هو أنَّهم عاهَدُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، عَلى ألّا يُحارِبُوهُ ولا يُعِينُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا مِن غَيْرِهِمْ، فَلَمّا اجْتَمَعَتِ الأحْزابُ عَلى النَبِيِّ ﷺ بِالمَدِينَةِ غَلَبَ عَلى ظَنِّ بَنِي قُرَيْظَةَ أنَّ النَبِيَّ ﷺ مَغْلُوبٌ ومُسْتَأْصَلٌ، وخَدَعَ حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ النَضْرِيُّ كَعْبَ بْنَ أسَدٍ القُرَظِيَّ صاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وعَهْدِهِمْ، فَغَدَرُوا ووالَوْا قُرَيْشًا وأمَدُّوهم بِالسِلاحِ والأدْراعِ، فَلَمّا انْجَلَتْ تِلْكَ الحالُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، أمَرَهُ اللهُ بِالخُرُوجِ إلَيْهِمْ وحَرْبِهِمْ، فاسْتُنْزِلُوا وضُرِبَتْ أعْناقُهم بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ، واسْتِيعابُ القِصَّةِ في سِيرَةِ ابْنِ هِشامٍ، وإنَّما اقْتَضَبْتُ مِنها ما يَخُصُّ تَفْسِيرَ الآيَةِ.
{"ayahs_start":53,"ayahs":["ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ یَكُ مُغَیِّرࣰا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ","كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَغۡرَقۡنَاۤ ءَالَ فِرۡعَوۡنَۚ وَكُلࣱّ كَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ","إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَاۤبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ","ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتَّ مِنۡهُمۡ ثُمَّ یَنقُضُونَ عَهۡدَهُمۡ فِی كُلِّ مَرَّةࣲ وَهُمۡ لَا یَتَّقُونَ"],"ayah":"كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَغۡرَقۡنَاۤ ءَالَ فِرۡعَوۡنَۚ وَكُلࣱّ كَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق