الباحث القرآني

(p-٢٠٧)قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ﴿وَأطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكم واصْبِرُوا إنَّ اللهَ مَعَ الصابِرِينَ﴾ ﴿وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ بَطَرًا ورِئاءَ الناسِ ويَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللهِ واللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ هَذا أمْرٌ بِما فِيهِ داعِيَةُ النَصْرِ وسَبَبُ العِزِّ، وهي وصِيَّةٌ مِنَ اللهِ مُتَوَجِّهَةٌ بِحَسَبِ التَقْيِيدِ الَّذِي في آيَةِ الضَعْفِ، ويَجْرِي مَعَ مَعْنى الآيَةِ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "لا تَتَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ، واسْألُوا اللهَ العافِيَةَ، فَإذا لَقِيتُمُوهم فاثْبُتُوا".» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَكَذا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ المُسْلِمُ في وِلايَةِ الإمارَةِ والقَضاءِ لا يَطْلُبُ ولا يَتَمَنّى، فَإنِ ابْتُلِيَ صَبَرَ عَلى إقامَةِ الحَقِّ. و"الفِئَةُ": الجَماعَةُ، أصْلُها فِئْوَةٌ وهي مِن فَأوتُ أيْ جَمَعْتُ. ثُمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى بِإكْثارِ ذِكْرِهِ هُنالِكَ إذْ هو عِصْمَةُ المُسْتَنْجِدِ ووَزَرُ المُسْتَعِينِ، قالَ قَتادَةُ: افْتَرَضَ اللهُ ذِكْرَهُ عِنْدَ أشْغَلِ ما يَكُونُونَ، عِنْدَ الضِرابِ بِالسُيُوفِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ذِكْرٌ خَفِيٌّ لِأنَّ رَفْعَ الأصْواتِ في مَوْطِنِ القِتالِ رَدِيءٌ مَكْرُوهٌ إذا كانَ إلْفاظًا. (p-٢٠٨)فَأمّا إنْ كانَ مِنَ الجَمِيعِ عِنْدَ الحَمْلَةِ فَحَسَنٌ فاتٌّ في عَضُدِ العَدُوِّ، وقالَ قَيْسُ بْنُ عَبّادٍ: كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَكْرَهُونَ الصَوْتَ عِنْدَ ثَلاثٍ: عِنْدَ قِراءَةِ القُرْآنِ، وعِنْدَ الجِنازَةِ، والقِتالِ. وقالَ النَبِيُّ ﷺ: « "اطْلُبُوا إجابَةَ الدُعاءِ عِنْدَ القِتالِ، وإقامَةِ الصَلاةِ، ونُزُولِ الغَيْثِ"،» وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُكْرَهُ التَلَثُّمُ عِنْدَ القِتالِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولِهَذا -واللهُ أعْلَمُ- يَتَسَنَّنُ المُرابِطُونَ بِطَرْحِهِ عِنْدَ القِتالِ عَلى ضَنانَتِهِمْ بِهِ. و﴿تُفْلِحُونَ﴾: تَنالُونَ بُغْيَتَكم وتَبْلُغُونَ آمالَكُمْ، وهَذا مِثْلُ قَوْلِ لَبِيدٍ: ؎ أفْلِحْ بِما شِئْتَ فَقَدْ يُبْلَغُ بِالضَعْفِ وقَدْ يُخْدَعُ الأرِيبُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ﴾ الآيَةُ، اسْتِمْرارٌ عَلى الوَصِيَّةِ والأخْذِ عَلى أيْدِيهِمْ في اخْتِلافِهِمْ في أمْرِ بَدْرٍ وتَنازُعِهِمْ، و﴿فَتَفْشَلُوا﴾ نَصْبٌ بِالفاءِ في جَوابِ النَهْيِ، قالَ أبُو حاتِمٍ في كِتابِ "إبْراهِيمَ": "فَتَفْشَلُوا" بِكَسْرِ الشِينِ، وهَذا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَتَذْهَبَ" بِالتاءِ مِن فَوْقُ ونَصْبِ الباءِ، وقَرَأ هُبَيْرَةُ عن حَفْصٍ عن عاصِمٍ: "وَتَذْهَبْ" بِالتاءِ وجَزْمِ الباءِ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: "وَيَذْهَبْ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ وبِجَزْمِ "يَذْهَبْ"، وقَرَأ أبُو حَيَوَةَ: "وَيَذْهَبَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ ونَصْبِ الباءِ، ورَواها أبانُ، وعِصْمَةُ عن عاصِمٍ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ الرِيحَ هُنا مُسْتَعارَةٌ (p-٢٠٨)والمُرادُ بِها النَصْرُ والقُوَّةُ، كَما تَقُولُ: "الرِيحُ لِفُلانٍ" إذا كانَ غالِبًا في أمْرٍ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ الشاعِرِ وهو عُبَيْدُ بْنُ الأبْرَصِ: ؎ كَما حَمَيْناكَ يَوْمَ النَعْفِ مِن شَطِبِ ∗∗∗ ∗∗∗ والفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِن رِيحٍ ومِن عَدَدِ وقالَ مُجاهِدٌ: الرِيحُ: النَصْرُ والقُوَّةُ، وذَهَبَتْ رِيحُ أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ حِينَ نازَعُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وقالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ مَعْناهُ: الرُعْبُ مِن قُلُوبِ عَدُوِّكم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا حَسَنٌ بِشَرْطِ أنْ يَعْلَمَ العَدُوُّ بِالتَنازُعِ، وإذا لَمْ يَعْلَمْ فالذاهِبُ قُوَّةُ المُتَنازِعِينَ فَيَنْهَزِمُونَ، وقالَ شاعِرُ الأنْصارِ: ؎ قَدْ عَوَّدَتْهم ظُباهم أنْ تَكُونَ لَهم ∗∗∗ ∗∗∗ رِيحُ القِتالِ وأسْلابُ الَّذِينَ لَقُوا ومِنِ اسْتِعارَةِ الرِيحِ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ إذا هَبَّتْ رِياحُكَ فاغْتَنِمْها ∗∗∗ ∗∗∗ فَإنْ لِكُلِّ عاصِفَةٍ سُكُونُ وهَذا كَثِيرٌ مُسْتَعْمَلٌ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُ: الرِيحُ عَلى بابِها، ورُوِيَ أنَّ النَصْرَ لَمْ يَكُنْ قَطُّ إلّا بِرِيحٍ تَهُبُّ فَتَضْرِبُ في وُجُوهِ الكُفّارِ، واسْتَنَدَ بَعْضُهم في هَذِهِ المَقالَةِ إلى قَوْلِهِ ﷺ: « "نُصِرْتُ بِالصَبا"». وقالَ الحَكَمُ: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ يَعْنِي: الصَبا إذْ بِها نَصْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ وأُمَّتِهِ. (p-٢١٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا إنَّما كانَ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ خاصَّةً، وقَوْلُهُ: ﴿واصْبِرُوا﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، تَتْمِيمٌ في الوَصِيَّةِ وعِدَةٌ مُؤْنِسَةٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ الآيَةُ، آيَةٌ تَتَضَمَّنُ الطَعْنَ عَلى المُشارِ إلَيْهِمْ وهم كُفّارُ قُرَيْشٍ، وخَرَجَ ذَلِكَ عَلى طَرِيقِ النَهْيِ عن سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ، والإشارَةُ هي إلى كُفّارِ قُرَيْشٍ بِإجْماعٍ، والبَطَرُ: الأشَرُ وغَمْطُ النِعْمَةِ والشُغْلُ بِالمَرَحِ فِيها عن شُكْرِها، والرِياءُ: المُباهاةُ والتَصَنُّعُ بِما يَراهُ غَيْرُكَ، وهو فِعالٌ مِن: رائى يُرائِي، سُهِّلَتْ هَمْزَتُهُ، ورُوِيَ أنَّ أبا سُفْيانَ لَمّا أحَسَّ أنَّهُ تَجاوَزَ بَعِيرُهُ الخَوْفَ مِنَ النَبِيِّ ﷺ، وأصْحابِهِ بَعَثَ إلى قُرَيْشٍ فَقالَ: "إنَّ اللهَ قَدْ سَلَّمَ عِيرَكُمُ الَّتِي خَرَجْتُمْ إلى نُصْرَتِها فارْجِعُوا سالِمِينَ قَدْ بَلَغْتُمْ مُرادَكُمْ"، فَأتى رَأْيُ الجَماعَةِ عَلى ذَلِكَ، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: واللهِ لا نَفْعَلُ حَتّى نَأْتِيَ بَدْرًا، -وَكانَتْ بَدْرٌ سُوقًا مِن أسْواقِ العَرَبِ لَها يَوْمُ مَوْسِمٍ- فَنَنْحَرَ عَلَيْها الإبِلَ، ونَشْرَبَ الخَمْرَ، وتُعْزَفَ عَلَيْنا القِيانُ، ويَسْمَعَ بِنا العَرَبُ، ويَهابَنا الناسُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَرِئاءَ الناسِ﴾ ولِهَذا قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "اللهُمَّ، إنَّ قُرَيْشًا أقْبَلَتْ بِفَخْرِها وخُيَلائِها تُحادُّكَ وتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللهُمَّ، فَأحِنْها الغَداةَ"»، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: خَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِالقِيانِ والدُفُوفِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللهِ﴾ أيْ: غَيْرَهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: لِأنَّهم أحْرى بِذَلِكَ مِن أنْ يَقْتَصِرَ صَدُّهم عَلى أنْفُسِهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿واللهُ بِما يَعْمَلُونَ (p-٢١١)مُحِيطٌ﴾ آيَةٌ تَتَضَمَّنُ الوَعِيدَ والتَهْدِيدَ لِمَن بَقِيَ مِنَ الكُفّارِ، ونُفُوذَ القَدَرِ فِيمَن مَضى بِالقَتْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب