الباحث القرآني
(p-١٧٧)قوله عزّ وجلّ:
﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ﴿وَما لَهم ألا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وهم يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وما كانُوا أولِياءَهُ إنْ أولِياؤُهُ إلا المُتَّقُونَ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾
قالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كُلُّها بِمَكَّةَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتْ كُلُّها بَعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ حِكايَةً عَمّا مَضى، وقالَ ابْنُ أبْزى: نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ بِمَكَّةَ إثْرَ قَوْلِهِمْ: ﴿أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]، ونَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ عِنْدَ خُرُوجِ النَبِيِّ ﷺ عن مَكَّةَ في طَرِيقِهِ إلى المَدِينَةِ، وقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، ونَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿وَما لَهُمْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ بَعْدَ بَدْرٍ عِنْدَ ظُهُورِ العَذابِ عَلَيْهِمْ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وأجْمَعَ المُتَأوِّلُونَ عَلى أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يُعَذِّبْ قَطُّ أُمَّةً ونَبِيُّها بَيْنَ أظْهُرِها، فَما كانَ لِيُعَذِّبَ هَذِهِ وأنْتَ فِيهِمْ، بَلْ كَرامَتُكَ لَدَيْهِ أعْظَمُ، قالَ -أراهُ عن أبِي زَيْدٍ-: سَمِعْتُ مِنَ العَرَبِ مَن يَقُولُ: "ما كانَ اللهُ لَيُعَذِّبَهُمْ" بِفَتْحِ اللامِ، وهي لُغَةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ ولا مُسْتَعْمَلَةٍ في القُرْآنِ.
واخْتَلَفُوا في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وابْنُ أبْزى، وأبُو مالِكٍ، والضَحّاكُ ما مُقْتَضاهُ: إنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: "مُعَذِّبَهُمْ" يَعُودُ عَلى كُفّارِ مَكَّةَ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "وَهُمْ" عائِدُ عَلى المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَقُوا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمَكَّةَ، أيْ: وما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَ الكُفّارَ والمُؤْمِنُونَ بَيْنَهم يَسْتَغْفِرُونَ. (p-١٧٨)
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويَدْفَعُ في صَدْرٍ هَذا القَوْلِ أنَّ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رُدَّ الضَمِيرُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجْرِ لَهم ذِكْرٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أيْضًا ما مُقْتَضاهُ: أنْ يُقالَ: الضَمِيرانِ عائِدانِ عَلى الكُفّارِ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ في دُعائِهِمْ: غُفْرانَكَ، ويَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ، ونَحْوَ هَذا مِمّا هو دُعاءٌ واسْتِغْفارٌ، فَجَعَلَهُ اللهُ أمَنَةً مِن عَذابِ الدُنْيا، وعَلى هَذا تَرَكَّبَ قَوْلُ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ اللهَ جَعَلَ مِن عَذابِ الدُنْيا أمَنَتَيْنِ، كَوْنَ الرَسُولِ ﷺ مَعَ الناسِ، والِاسْتِغْفارَ، فارْتَفَعَتِ الواحِدَةُ وبَقِيَ الِاسْتِغْفارُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وقالَ قَتادَةُ: الضَمِيرُ لِلْكُفّارِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾، جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ إنْ لَوْ كانَتْ، فالمَعْنى: وما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهم وهم بِحالِ تَوْبَةٍ واسْتِغْفارٍ مِن كُفْرِهِمْ لَوْ وقَعَ ذَلِكَ مِنهُمْ، واخْتارَهُ الطَبَرِيُّ، ثُمَّ حَسُنَ الزَجْرُ والتَوْقِيفُ -بَعْدَ هَذا- بِقَوْلِهِ: ﴿وَما لَهم ألا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ﴾.
وقالَ الزَجّاجُ ما مَعْناهُ: إنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: "وَهُمْ" عائِدٌ عَلى الكُفّارِ، والمُرادِ بِهِ: مَن سَبَقَ لَهُ في عِلْمِ اللهِ أنْ يُسْلِمَ ويَسْتَغْفِرَ، فالمَعْنى: وما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَ الكُفّارَ وفِيهِمْ مَن يَسْتَغْفِرُ ويُؤْمِنُ في ثانِي حالٍ، وحَكاهُ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
وقالَ مُجاهِدٌ في كِتابِ الزَهْراوِيِّ: المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ذُرِّيَّةُ المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ الَّذِينَ سَبَقَ لَهم في عِلْمِ اللهِ أنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فالمَعْنى: وما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهم وذَرِّيَّتُهم يَسْتَغْفِرُونَ ويُؤْمِنُونَ، فَنُسِبَ الِاسْتِغْفارُ إلَيْهِمْ، إذْ ذُرِّيَّتُهم مِنهُمْ، وذَكَرَهُ مَكِّيٌّ ولَمْ يَنْسِبْهُ.
وفِي الطَبَرِيِّ عن فِرْقَةٍ أنَّ مَعْنى ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾: يُصَلُّونَ، وعن أُخْرى: يُسْلِمُونَ، ونَحْوُ هَذا مِنَ الأقْوالِ الَّتِي تَتَقارَبُ مَعَ قَوْلِ قَتادَةَ. (p-١٧٩)وَقوله عزّ وجلّ: ﴿وَما لَهم ألا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ﴾ تَوَعُّدٌ بِعَذابِ الدُنْيا، فَتَقْدِيرُهُ: وما يُعْلِمُهم أو يُدْرِيهِمْ ونَحْوُ هَذا مِنَ الأفْعالِ الَّتِي تُوجِبُ أنْ تَكُونَ "أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وقالَ الطَبَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ: وما يَمْنَعُهم مِن أنْ يُعَذَّبُوا، والظاهِرُ في قَوْلِهِ: "وَما" أنَّها اسْتِفْهامٌ عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ والتَوْبِيخِ والسُؤالِ، وهَذا أفْصَحُ في القَوْلِ وأقْطَعُ لَهم في الحُجَّةِ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ "ما" نافِيَةً ويَكُونَ القَوْلُ إخْبارًا، أيْ: ولَيْسَ لَهم ألّا يُعَذَّبُوا وهم يَصُدُّونَ.
وقَوْلُهُ:
وهم يَصُدُّونَ
عَلى التَأْوِيلَيْنِ جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، و﴿يَصُدُّونَ﴾ في هَذا المَوْضِعِ مَعْناهُ: يَمْنَعُونَ غَيْرَهُمْ، فَهو مُتَعَدٍّ كَما قالَ:
؎ صَدَدْتِ الكَأْسَ عَنّا أُمَّ عَمْرٍو ∗∗∗...............
وقَدْ تَجِيءُ "صَدَّ" غَيْرَ مُتَعَدٍّ، كَما أنْشَدَ أبُو عَلِيٍّ:
؎ صَدَّتْ خُلَيْدَةُ عَنّا ما تُكَلِّمُنا ∗∗∗ ∗∗∗.................
والضَمِيرُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أولِياؤُهُ﴾ عائِدٌ عَلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُعَذِّبَهُمُ اللهُ﴾، أو عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ، كُلُّ ذَلِكَ جَيِّدٌ، رُوِيَ الأخِيرُ عَنِ الحَسَنِ، والضَمِيرُ الآخَرُ تابِعٌ لِلْأوَّلِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ مَعْناهُ: لا يَعْلَمُونَ أنَّهم لَيْسُوا (p-١٨٠)بِأولِيائِهِ، بَلْ يَظُنُّونَ أنَّهم أولِياؤُهُ، وقَوْلُهُ: ( أكْثَرَهم ) ونَحْنُ نَجِدُ كُلَّهم بِهَذِهِ الصِفَةِ، لَفْظٌ خارِجٌ إمّا عَلى أنْ تَقُولَ: إنَّهُ لَفْظُ خُصُوصٍ أُرِيدَ بِهِ العُمُومُ، وهَذا كَثِيرٌ في كَلامِ العَرَبِ، ومِنهُ حَكى سِيبَوَيْهِ مِن قَوْلِهِمْ: "قُلْ مَن يَقُولُ ذَلِكَ"، وهم يُرِيدُونَ: لا يَقُولُهُ أحَدٌ. وإمّا أنْ تَقُولَ: إنَّهُ أرادَ بِقَوْلِهِ: ( أكْثَرَهم ) أنْ يَعْلَمَ ويَشْعُرَ أنَّ بَيْنَهم وفي خِلالِهِمْ قَوْمًا قَدْ جَنَحُوا إلى الإيمانِ ووَقَعَ لَهم عِلْمٌ وإنْ كانَ ظاهِرُهُمُ الكُفْرُ فاسْتَثارَهم مِنَ الجَمِيعِ بِقَوْلِهِ: ( أكْثَرَهم )، وكَذَلِكَ كانَتْ حالُ مَكَّةَ وأهْلِها، فَقَدْ كانَ فِيهِمُ العَبّاسُ، وأُمُّ الفَضْلِ وغَيْرُهُما.
وحَكى الطَبَرِيُّ عن عِكْرِمَةَ: قالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَما لَهم ألا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ﴾، ناسِخٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وفِي هَذا نَظَرٌ، لِأنَّهُ خَبَرٌ لا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ.
{"ayahs_start":33,"ayahs":["وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِیهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ یَسۡتَغۡفِرُونَ","وَمَا لَهُمۡ أَلَّا یُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ یَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا كَانُوۤا۟ أَوۡلِیَاۤءَهُۥۤۚ إِنۡ أَوۡلِیَاۤؤُهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ"],"ayah":"وَمَا لَهُمۡ أَلَّا یُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ یَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا كَانُوۤا۟ أَوۡلِیَاۤءَهُۥۤۚ إِنۡ أَوۡلِیَاۤؤُهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











