الباحث القرآني

(p-١٦٥)قوله عزّ وجلّ: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً واعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ ﴿واذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ في الأرْضِ تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ الناسُ فَآواكم وأيَّدَكم بِنَصْرِهِ ورَزَقَكم مِنَ الطَيِّباتِ لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ هَذِهِ الآيَةُ تَحْتَمِلُ تَأْوِيلاتٍ، أسْبَقُها إلى النَفْسِ أنْ يُرِيدَ اللهُ أنْ يُحَذِّرَ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ مِن فِتْنَةٍ إنْ أصابَتْ لَمْ تَخُصَّ الظَلَمَةَ فَقَطْ، بَلْ تُصِيبُ الكُلَّ مِن ظالِمٍ وبَرِيءٍ، وهَذا التَأْوِيلُ تَأوَّلَ فِيها الزُبَيْرُ بْنُ العَوّامِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَإنَّهُ قالَ يَوْمَ الجَمَلِ: "وَما عَلِمْتُ أنّا أُرِدْنا بِهَذِهِ الآيَةِ إلّا اليَوْمَ، وما كُنْتُ أظُنُّها إلّا فِيمَن خُوطِبَ بِها ذَلِكَ الوَقْتَ"، وكَذَلِكَ تَأوَّلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ، فَإنَّهُ قالَ: "هَذِهِ الآيَةُ في عَلِيٍّ وعَمّارٍ وطَلْحَةَ والزُبَيْرِ "، وكَذَلِكَ تَأوَّلَ ابْنُ عَبّاسٍ، فَإنَّهُ قالَ: "أمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الآيَةِ ألّا يُقِرُّوا المُنْكِرَ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمُ العَذابُ"، وبَيَّنَهُ القُتَبِيُّ فِيما ذَكَرَ مَكِّيٌّ عنهُ بَيانًا شافِيًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَيَجِيءُ قَوْلُهُ: ﴿لا تُصِيبَنَّ﴾ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- صِفَةً لِلْفِتْنَةِ، فَكانَ الواجِبُ -إذا قَدَّرْنا ذَلِكَ- أنْ يَكُونَ اللَفْظُ: "لا تُصِيبُ"، وتُلُطِّفَ لِدُخُولِ النُونِ الثَقِيلَةِ في الخَبَرِ عَنِ الفِتْنَةِ، فَقالَ الزَجّاجُ: زَعَمَ بَعْضُ النَحْوِيِّينَ أنَّ الكَلامَ جَزاءٌ فِيهِ طُرُقٌ مِنَ النَهْيِ، قالَ: ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْخُلُوا مَساكِنَكم لا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ [النمل: ١٨] فالمَعْنى: إنْ تَدْخُلُوا لا يَحْطِمَنَّكُمْ، فَكَذَلِكَ هَذا: إنْ تَتَّقُوا لا تُصِيبَنَّ، وقالَ قَوْمٌ: هو خَبَرٌ بِمَعْنى الجَزاءِ فَلِذَلِكَ أمْكَنَ دُخُولُ النُونِ. وقالَ المَهْدَوِيُّ: وقِيلَ: هو جَوابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: (p-١٦٦)"واتَّقَوْا فِتْنَةً واللهِ لا تُصِيبَنَّ"، ودَخَلَتِ النُونُ مَعَ "لا" حَمْلًا عَلى دُخُولِها مَعَ اللامِ فَقَطْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا القَوْلِ تَكَرُّهٌ، لِأنَّ جَوابَ القَسَمِ إذا دَخَلَتْهُ "لا" أو كانَ مَنفِيًّا في الجُمْلَةِ لَمْ تَدْخُلِ النُونُ، وإذا كانَ مُوجَبًا دَخَلَتْهُ اللامُ والنُونُ الشَدِيدَةُ كَقَوْلِكَ: "واللهِ لا يَقُومُ زَيْدٌ، واللهِ لِيَقُومَنَّ زَيْدٌ"، هَذا هو قانُونُ البابِ، ولَكِنْ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ يَسْتَقِيمُ مَعَ التَكَرُّهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ. والتَأْوِيلُ الآخَرُ في الآيَةِ هو أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً﴾ خِطابًا عامًّا لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، تَمَّ الكَلامُ عِنْدَهُ ثُمَّ ابْتَدَأ نَهْيُ الظَلَمَةِ خاصَّةً عَنِ التَعَرُّضِ لِلظُّلْمِ فَتُصِيبُهُمُ الفِتْنَةُ خاصَّةً، وأُخْرِجَ النَهْيُ عَلى جِهَةِ المُخاطَبَةِ لِلْفِتْنَةِ فَهو نَهْيٌ مُحَوَّلٌ، والعَرَبُ تَفْعَلُ هَذا كَما قالُوا: "لا أرَيْنَّكَ هاهُنا"، يُرِيدُونَ: لا تَقُمْ هاهُنا فَتَقَعَ مِنِّي رُؤْيَتُكَ، ولَمْ يُرِيدُوا نَهْيَ الإنْسانِ الرائِي نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ المُرادُ في الآيَةِ: لا يَقَعُ مِن ظَلَمَتِكم ظُلْمٌ فَتَقَعَ مِنَ الفِتْنَةِ إصابَتُهُمْ، نَحا إلَيْهِ الزَجّاجُ، وهو قَوْلُ أبِي العَبّاسِ المُبَرِّدِ، وحَكاهُ النَقّاشُ عَنِ الفَرّاءِ، ونَهْيُ الظَلَمَةِ هاهُنا بِلَفْظِ مُخاطَبَةِ الجَمْعِ كَما تَقُولُ لِقَوْمٌ: "لا يَفْعَلْ سُفَهاؤُكم كَذا وكَذا" وأنْتَ إنَّما تُرِيدُ نَهْيَ السُفَهاءِ فَقَطْ. و﴿خاصَّةً﴾ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إصابَةً خاصَّةً، فَهي نَصْبٌ عَلى الحالِ لَمّا انْحَذَفَ المَصْدَرُ، وهي مِنَ الضَمِيرِ في "تُصِيبَنَّ"، وهَذا الفِعْلُ هو العامِلُ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "خاصَّةً" حالًا مِنَ الضَمِيرِ في "ظَلَمُوا" ولا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. والأوَّلُ أمْكَنُ في المَعْنى. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وأبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، والرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ، وأبُو العالِيَةِ، وابْنُ جَمّازٍ: "لَتُصِيبَنَّ" بِاللامِ عَلى جَوابِ قَسَمٍ. والمَعْنى عَلى هَذا وعِيدُ الظَلَمَةِ فَقَطْ، قالَ أبُو الفَتْحِ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهَذِهِ القِراءَةِ: "لا تُصِيبَنَّ" فَحُذِفَ الألِفُ مِن "لا" تَخْفِيفًا واكْتِفاءً بِالحَرَكَةِ، كَما قالُوا: "أمْ واللهِ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ (p-١٦٧)بِقِراءَةِ الجَماعَةِ "لا تُصِيبَنَّ": "لَتُصِيبَنَّ" فَمَطُلَتْ حَرَكَةُ اللامِ فَحَدَثَتْ عنها ألِفٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا تَنَطُّعٌ في التَحْمِيلِ، وحَكى النَقّاشُ هَذِهِ القِراءَةَ عَنِ الزُبَيْرِ بْنِ العَوّامِ، وهَذا خِلافٌ لِما حَكى الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ مِن تَأْوِيلِ الزُبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في الآيَةِ، وحَكى النَقّاشُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَرَأ: "واتَّقَوْا فِتْنَةً أنْ تُصِيبَ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ وعِيدٌ يَلْتَئِمُ مَعَ تَأْوِيلِ الزَبِيرِ والحَسَنِ التِئامًا حَسَنًا، ويَلْتَئِمُ مَعَ سائِرِ التَأْوِيلاتِ بِوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمانَ الأخْفَشِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تُصِيبَنَّ﴾ هي عَلى مَعْنى الدُعاءِ، ذَكَرَهُ الزَهْراوِيُّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ الآيَةُ، هَذِهِ آيَةٌ تَتَضَمَّنُ تَعْدِيدَ نِعَمِ اللهِ عَلى المُؤْمِنِينَ، و"إذْ" ظَرْفٌ لِمَعْمُولٍ "واذْكُرُوا"، تَقْدِيرُهُ: "واذْكُرُوا حالَكُمُ الكائِنَةَ أوِ الثابِتَةَ إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ"، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ "إذْ" ظَرْفًا لِلذِّكْرِ، وإنَّما يَعْمَلُ الذِكْرُ في "إذْ" لَوْ قَدَّرْناها مَفْعُولَةً. واخْتَلَفَ الناسُ في الحالِ المُشارِ إلَيْها بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ هي الأكْثَرُ: هي حالُ مَكَّةَ في وقْتِ بَدْأةِ الإسْلامِ، والناسُ الَّذِينَ يُخافُ تَخَطُّفُهُمْ: كُفّارُ مَكَّةَ، والمَأْوى -عَلى هَذا التَأْوِيلِ-: المَدِينَةُ والأنْصارُ، والتَأْيِيدُ بِالنَصْرِ: وقْعَةُ بَدْرٍ وما أُنْجِزَ مَعَها في وقْتِها، والطَيِّباتُ: الغَنائِمُ وسائِرُ ما فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: الحالُ المُشارُ (p-١٦٨)إلَيْها هي حالُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وأصْحابِهِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ، والناسُ الَّذِينَ يُخافُ تَخَطُّفُهم -عَلى هَذا-: عَسْكَرُ مَكَّةَ وسائِرُ القَبائِلِ المُجاوِرَةُ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ يَتَخَوَّفُ مِن بَعْضِهِمْ، والمَأْوى -عَلى هَذا- والتَأْيِيدُ بِالنَصْرِ هو الإمْدادُ بِالمَلائِكَةِ والتَغْلِيبُ عَلى العَدُوِّ، والطَيِّباتُ: الغَنِيمَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذانَ قَوْلانِ يُناسِبانِ وقْتَ نُزُولِ الآيَةِ لِأنَّها نَزَلَتْ عَقِبَ بَدْرٍ، وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وقَتادَةُ: الحالُ المُشارُ إلَيْها هي حالُ العَرَبِ قاطِبَةً، فَإنَّها كانَتْ أعْرى الناسِ أجْسامًا وأجْوَعَهم بُطُونًا وأقَلَّهم رِجالًا ونِعَمًا، والناسُ الَّذِينَ يُخافُ تَخَطُّفُهم -عَلى هَذا التَأْوِيلِ-: فارِسُ والرُومُ، والمَأْوى -عَلى هَذا- هو النُبُوءَةُ والشَرِيعَةُ، والتَأْيِيدُ بِالنَصْرِ هو فَتْحُ البِلادِ وغَلَبَةُ المُلُوكِ، والطَيِّباتُ هي نِعَمُ المَآكِلِ والمَشارِبِ والمَلابِسِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا التَأْوِيلُ يَرُدُّهُ أنَّ العَرَبَ كانَتْ في وقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ كافِرَةً إلّا القَلِيلَ، ولَمْ تَتَرَتَّبِ الأحْوالُ الَّتِي ذَكَرَها هَذا المُتَأوِّلُ، وإنَّما كانَ يُمْكِنُ أنْ يُخاطَبَ العَرَبُ بِهَذِهِ الآيَةِ في آخِرِ زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَإنْ تَمَثَّلَ أحَدٌ بِهَذِهِ الآيَةِ لِحالَةِ العَرَبِ فَتَمَثُّلُهُ صَحِيحٌ، وأمّا أنْ تَكُونَ حالَةُ العَرَبِ هي سَبَبَ الآيَةِ فَبَعِيدٌ لِما ذَكَرْناهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ تَرَجٍّ بِحَسَبِ البَشَرِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( واذْكُرُوا ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب