الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ شَرَّ الدَوابِّ عِنْدَ اللهِ الصُمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهم ولَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكم لِما يُحْيِيكم واعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ المَقْصُودُ بِهَذِهِ الآيَةِ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ هَذِهِ الصَنِيفَةَ العاتِيَةَ مِنَ الكُفّارِ هي شَرُّ الناسِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وأنَّها أخَسُّ المَنازِلِ لَدَيْهِ، وعَبَّرَ بِالدَوابِّ لِيَتَأكَّدَ ذَمُّهم ولِيُفَضَّلَ عَلَيْهِمُ الكَلْبُ العَقُورُ والخِنْزِيرُ ونَحْوُهُما مِنَ السَبُعِ والخَمْسِ الفَواسِقِ وغَيْرِها. والدَوابُّ: كُلُّ ما دَبَّ فَهو يَعُمُّ الحَيَوانَ بِجُمْلَتِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الصُمُّ البُكْمُ﴾ عِبارَةٌ عَمّا في قُلُوبِهِمْ وقِلَّةِ انْشِراحِ صُدُورِهِمْ وإدْراكِ عُقُولِهِمْ، فَلِذَلِكَ وصَفَهم بِالصُمِّ والبُكْمِ وسَلَبَ العَقْلَ. ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في طائِفَةٍ مِن بَنِي عَبْدِ الدارِ، وظاهِرُها العُمُومُ فِيهِمْ وفي غَيْرِهِمْ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الأوصافِ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى بِأنَّ عَدَمَ سَمْعِهِمْ وهُداهم (p-١٦٢)إنَّما هو بِما عَلِمَهُ اللهُ مِنهم وسَبَقَ مِن قَضائِهِ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ ذَلِكَ في عِبارَةٍ بَلِيغَةٍ في ذَمِّهِمْ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ﴾، والمُرادُ: لَأسْمَعَهم إسْماعَ تَفْهِيمٍ وهُدًى، ثُمَّ ابْتَدَأ عَزَّ وجَلَّ الخَبَرَ عنهم بِما هم عَلَيْهِ مِن حَتْمِهِ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ فَقالَ: ﴿وَلَوْ أسْمَعَهُمْ﴾ أيْ: ولَوْ أفْهَمَهم ﴿لَتَوَلَّوْا﴾ بِحُكْمِ القَضاءِ السابِقِ فِيهِمْ، ولَأعْرَضُوا عَمّا تَبَيَّنَ لَهم مِنَ الهُدى. وحَكى الطَبَرِيُّ عن فِرْقَةٍ أنَّها قالَتِ:المَعْنِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ المُنافِقُونَ، وضَعَّفَهُ الطَبَرِيُّ، وكَذَلِكَ هو ضَعِيفٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ﴾ الآيَةُ، هَذا خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ المُصَدِّقِينَ بِلا خِلافٍ، و﴿اسْتَجِيبُوا﴾ بِمَعْنى أجِيبُوا، ولَكِنْ عُرْفُ الكَلامِ أنْ يَتَعَدّى "اسْتَجابَ" بِلامٍ ويَتَعَدّى "أجابَ" دَوْنَ لامٍ، وقَدْ يَجِيءُ تَعَدِّي "اسْتَجابَ" بِغَيْرِ لامٍ، والشاهِدُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وداعٍ دَعا يا مَن يُجِيبُ إلى النَدا ∗∗∗ فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ وقَوْلُهُ: ﴿لِما يُحْيِيكُمْ﴾ قالَ مُجاهِدٌ والجُمْهُورُ: المَعْنى: لِلطّاعَةِ وما تَضَمَّنَهُ القُرْآنُ مِن أوامِرَ ونَواهٍ، وهَذا إحْياءٌ مُسْتَعارٌ، لِأنَّهُ مِن مَوْتِ الكُفْرِ والجَهْلِ، وقِيلَ: الإسْلامُ، وهَذا نَحْوُ الأوَّلِ ويَضْعُفُ مِن جِهَةِ أنَّ مَن آمَنَ لا يُقالُ لَهُ: ادْخُلْ في الإسْلامِ. وقِيلَ: ﴿لِما يُحْيِيكُمْ﴾ مَعْناهُ: لِلْحَرْبِ وجِهادِ العَدُوِّ، وهو يُحْيِي بِالعِزَّةِ والغَلَبَةِ والظَفَرِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ حَياةً، كَما تَقُولُ: حَيِيَتْ حالُ فُلانٍ إذا ارْتَفَعَتْ، ويُحْيِي أيْضًا كَما يُحْيِي الإسْلامُ والطاعَةُ وغَيْرُ ذَلِكَ بِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى الحَياةِ الدائِمَةِ في الآخِرَةِ. وقالَ النَقّاشُ: المُرادُ: إذا دَعاكم لِلشَّهادَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذِهِ صِلَةُ حَياةِ الدُنْيا بِحَياةِ الآخِرَةِ. (p-١٦٣)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، مِنها أنَّهُ لَمّا أمَرَهم بِالِاسْتِجابَةِ في الطاعَةِ حَضَّهم عَلى المُبادَرَةِ والِاسْتِعْجالِ، فَقالَ: واعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ بِالمَوْتِ والقَبْضِ، أيْ: فَبادِرُوا بِالطاعاتِ، ويَلْتَئِمُ مَعَ هَذا التَأْوِيلِ قَوْلُهُ: ﴿وَأنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، أيْ فَبادِرُوا بِالطاعاتِ وتَزَوَّدُوها لِيَوْمِ الحَشْرِ. ومِنها أنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾ إعْلامَهم أنَّ قُدْرَةَ اللهِ وإحاطَتَهُ وعِلْمَهُ والِجَةٌ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ حاصِلَةٌ هُناكَ حائِلَةٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَلْبِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَكَأنَّ هَذا المَعْنى يَحُضُّ عَلى المُراقَبَةِ والخَوْفِ لِلَّهِ المُطَّلِعِ عَلى الضَمائِرِ، ويُشْبِهُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦]، حُكِيَ هَذا التَأْوِيلُ عن قَتادَةَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ تَخْوِيفَهم إنْ لَمْ يَمْتَثِلُوا الطاعاتِ ويَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ بِما حَلَّ بِالكُفّارِ الَّذِينَ أرادَهم بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾، لِأنَّ حَتْمَهُ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لَوْ سَمِعُوا وفَهِمُوا لَمْ يَنْتَفِعُوا، يَقْتَضِي أنَّهُ قَدْ كانَ حالَ بَيْنَهم وبَيْنَ قُلُوبِهِمْ، فَكَأنَّهُ قالَ لِلْمُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الأُخْرى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولا تَأْمَنُوا إنْ تَفْعَلُوا أنْ يَنْزِلَ بِكم ما نَزَلَ بِالكُفّارِ مِنَ الحَوْلِ بَيْنَهم وبَيْنَ قُلُوبِهِمْ، فَنَبَّهَ عَلى ما جَرى عَلى الكُفّارِ بِأبْلَغِ عِبارَةٍ وأعْلِقِها بِالنَفْسِ. ومِنها أنْ يَكُونَ المَعْنى تَرْجِيَةً لَهم بِأنَّ اللهَ يُبَدِّلُ الخَوْفَ الَّذِي في قُلُوبِهِمْ مِن كَثْرَةِ العَدُوِّ فَيَجْعَلُهُ جُرْأةً وقُوَّةً، وبِضِدِّ ذَلِكَ الكُفّارُ، فَإنَّ اللهَ هو مُقَلِّبُ القُلُوبِ كَما كانَ قَسَمُ النَبِيِّ ﷺ، قالَ بَعْضُ الناسِ: ومِنهُ: "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ" أيْ: لا حَوْلَ عَلى مَعْصِيَةٍ ولا قُوَّةَ عَلى طاعَةٍ إلّا بِاللهِ. (p-١٦٤)وَقالَ المُفَسِّرُونَ في ذَلِكَ أقْوالًا هي أجْنَبِيَّةٌ مِن ألْفاظِ الآيَةِ حَكاها الطَبَرِيُّ، مِنها أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ، وبَيْنَ الكافِرِ والإيمانِ، ونَحْوِ هَذا. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: "بَيْنَ المِرْءِ" بِكَسْرِ المِيمِ، ذَكَرَهُ أبُو حاتِمٍ، قالَ أبُو الفَتْحِ: وقَرَأ الحَسَنُ والزُبَيْدِيُّ: "بَيْنَ المَرِّ" بِفَتْحِ المِيمِ وشَدِّ الراءِ المَكْسُورَةِ. و﴿تُحْشَرُونَ﴾ تُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيامَةِ. ورُوِيَ عن طَرِيقِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ والنَسائِيِّ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَعا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وهو في الصَلاةِ فَلَمْ يُجِبْ وأسْرَعَ في بَقِيَّةِ صَلاتِهِ، فَلَمّا جاءَهُ قالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أما سَمِعْتَ فِيما يُوحى إلَيَّ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكم لِما يُحْيِيكُمْ﴾ فَقالَ أُبَيٌّ: لا جَرَمَ يا رَسُولَ اللهِ، لا تَدْعُونِي أبَدًا إلّا أجَبْتُكَ،» الحَدِيثُ بِطُولِهِ واخْتِلافِ ألْفاظِهِ. وفي البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ أنَّ ذَلِكَ وقَعَ مَعَ أبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلّى، ورُوِيَ أنَّهُ وقَعَ نَحْوُهُ مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب