الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ وإنْ تَنْتَهُوا فَهو خَيْرٌ لَكم وإنْ تَعُودُوا نَعُدْ ولَنْ تُغْنِيَ عنكم فِئَتُكم شَيْئًا ولَوْ كَثُرَتْ وأنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ ولا تَوَلَّوْا عنهُ وأنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ ﴿وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهم لا يَسْمَعُونَ﴾ قالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: هَذِهِ الآيَةُ مُخاطَبَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الحاضِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، قالَ اللهُ لَهُمْ: ﴿إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ﴾ وهو الحُكْمُ بَيْنَكم وبَيْنَ الكافِرِينَ، فَقَدْ جاءَكم وقَدْ حَكَمَ اللهُ لَكُمْ، ﴿وَإنْ تَنْتَهُوا﴾ عَمّا فَعَلْتُمْ مِنَ الكَلامِ في أمْرِ الغَنائِمِ وما شَجَرَ بَيْنَكم فِيها، وعن تَفاخُرِكم بِأفْعالِكم مِن قَتْلٍ وغَيْرِهِ ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكم وإنْ تَعُودُوا﴾ لِهَذِهِ الأفْعالِ ﴿نَعُدْ﴾ لِتَوْبِيخِكُمْ، ثُمَّ أعْلَمَهم أنَّ الفِئَةَ -وَهِيَ الجَماعَةُ- لا تُغْنِي وإنْ كَثُرَتْ إلّا بِنْصِرِ اللهِ تَعالى ومَعُونَتِهِ ثُمَّ آنَسَهم بِقَوْلِهِ وإيجابِهِ، أنَّهُ مَعَ المُؤْمِنِينَ. وقالَ أكْثَرُ المُتَأوِّلِينَ: هَذِهِ الآيَةُ مُخاطَبَةٌ لِلْكُفّارِ أهْلِ مَكَّةَ، وذَلِكَ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ أبا جَهْلٍ كانَ يَدْعُو أبَدًا في مَحافِلِ قُرَيْشٍ، ويَقُولُ: "اللهُمَّ، أقَطْعُنا لِلرَّحِمِ وآتانا بِما لا نَعْرِفُ، فَأهْلِكْهُ واجْعَلْهُ المَغْلُوبَ"، يُرِيدُ مُحَمَّدًا ﷺ وإيّاهم. ورُوِيَ أنَّ قُرَيْشًا لَمّا عَزَمُوا عَلى الخُرُوجِ إلى حِمايَةِ العِيرِ، تَعَلَّقُوا بِأسْتارِ الكَعْبَةِ واسْتَفْتَحُوا، ورُوِيَ أنَّ أبا جَهْلٍ قالَ صَبِيحَةَ يَوْمِ بَدْرٍ: "اللهُمَّ، انْصُرْ أحَبَّ الفِئَتَيْنِ إلَيْكَ، وأظْهِرْ خَيْرَ الدِينَيْنِ عِنْدَكَ، اللهُمَّ أقَطْعُنا لِلرَّحِمِ، فَأحِنْهُ الغَداةَ، ونَحْوَ هَذا" فَقالَ لَهُمُ اللهُ: إنْ تَطْلُبُوا الفَتْحَ أيْ كَما تَرَوْنَهُ عَلَيْكم لا لَكم. (p-١٦٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا تَوْبِيخٌ. ثُمَّ قالَ لَهُمْ: وإنْ تَنْتَهُوا عن كُفْرِكم وغَيِّكم فَهو خَيْرٌ لَكُمْ، ثُمَّ أخْبَرَهم أنَّهم إنْ عادُوا لِلِاسْتِفْتاحِ عادَ بِمِثْلِ الوَقْعَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أعْلَمَهم أنَّ فِئَتَهم لا تُغْنِي شَيْئًا وإنْ كانَتْ كَثِيرَةً، ثُمَّ أعْلَمَهم أنَّهُ مَعَ المُؤْمِنِينَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ﴾ هي مُخاطَبَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وسائِرِ الآيَةِ مُخاطَبَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، كَأنَّهُ قالَ: وأنْتُمُ الكُفّارُ ( إنْ تَنْتَهُوا فَهو خَيْرٌ لَكم ). وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "وَإنَّ اللهَ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى القَطْعِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ: "وَأنَّ" بِفَتْحِ الألِفِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ مَحْذُوفٍ، وإمّا في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإضْمارِ فِعْلٍ، وما ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ مِن أنَّ التَقْدِيرَ: "لِكَثْرَتِها ولِأنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ" مُحْتَمَلُ المَعْنى، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَلَوْ كَثُرَتْ واللهُ مَعَ المُؤْمِنِينَ"، وهَذا يُقَوِّي قِراءَةَ مَن كَسَرَ الألِفَ مِن "إنَّ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ﴾ الآيَةُ، الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ المُصَدِّقِينَ، جَدَّدَ عَلَيْهِمُ الأمْرَ بِطاعَةِ اللهِ والرَسُولِ، ونُهُوا عَنِ التَوَلِّي عنهُ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. ويَكُونُ هَذا مُتَناصِرًا مَعَ قَوْلِ مَن يَقُولُ: "إنَّ الخِطابَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَإنْ تَنْتَهُوا﴾ هو لِلْمُؤْمِنِينَ"، فَيَجِيءُ الكَلامُ مِن نَمَطٍ واحِدٍ في مَعْناهُ، وأمّا عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: "إنَّ المُخاطَبَةَ بِـ "إنْ تَنْتَهُوا" هي لِلْكُفّارِ" فَيَرى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما نَزَلَتْ بِسَبَبِ اخْتِلافِهِمْ في النَفْلِ، ومُجادَلَتِهِمْ في الحَقِّ، وكَراهِيَتِهِمْ خُرُوجَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وتَفاخُرِهِمْ بِقَتْلِ الكُفّارِ والنِكايَةِ فِيهِمْ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الخِطابُ بِهَذِهِ الآيَةِ إنَّما هو لِلْمُنافِقِينَ، والمَعْنى: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا بِألْسِنَتِهِمْ فَقَطْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا -وَإنْ كانَ مُحْتَمَلًا عَلى بُعْدٍ- فَهو ضَعِيفٌ جِدًّا لِأجْلِ أنَّ اللهَ وصَفَ مَن خاطَبَ في هَذِهِ الآيَةِ بِالإيمانِ، والإيمانُ: التَصْدِيقُ، والمُنافِقُونَ لا يَتَّصِفُونَ مِنَ التَصْدِيقِ (p-١٦١)بِشَيْءٍ، وقِيلَ: إنَّ الخِطابَ لِبَنِي إسْرائِيلَ، وهَذا أجْنَبِيٌّ مِنَ الآيَةِ. و﴿تَوَلَّوْا﴾ أصْلُهُ: تَتَوَلَّوْا، لِأنَّ تَفْعَلُ دَخَلَتْ عَلَيْهِ تاءُ المُخاطَبِ بِالفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ، فَحُذِفَتِ الواحِدَةُ، والمَحْذُوفَةُ هي تاءُ تَفْعَلُ، والباقِيَةُ هي تاءُ العَلامَةِ، لِأنَّ الحاجَةَ إلَيْها هُنا أمَسُّ لِيَبْقى الفِعْلُ مُسْتَقْبَلًا. وقَوْلُهُ: ﴿وَأنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ يُرِيدُ: دُعاءَهُ لَكم بِالقُرْآنِ والمَواعِظِ والآياتِ. وقَوْلُهُ: ﴿كالَّذِينَ قالُوا﴾ يُرِيدُ: الكُفّارَ، فَإمّا مِن قُرَيْشٍ لِقَوْلِهِمْ: ﴿سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا﴾ [الأنفال: ٣١]، وإمّا الكُفّارُ عَلى الإطْلاقِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: سَمِعْنا القُرْآنَ وعَلِمْنا أنَّهُ سِحْرٌ أو شِعْرٌ وأساطِيرُ بِحَسَبِ اخْتِلافِهِمْ، ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ عنهم خَبَرًا نَفى بِهِ أنَّهم سَمِعُوا أيْ: فَهِمُوا ووَعَوْا، لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّهم كانُوا يَسْمَعُونَ التِلاوَةَ بِآذانِهِمْ ولَكِنَّ صُدُورَهم مُطْبَقَةٌ لَمْ يَشْرَحْها اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِتَلَقِّي مَعانِي القُرْآنِ والإيمانِ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب