الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَأخَذَهُ اللهُ نَكالَ الآخِرَةِ والأُولى﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشى﴾ ﴿أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا أمِ السَماءُ بَناها﴾ ﴿رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها﴾ ﴿وَأغْطَشَ لَيْلَها وأخْرَجَ ضُحاها﴾ ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ ﴿أخْرَجَ مِنها ماءَها ومَرْعاها﴾ ﴿والجِبالَ أرْساها﴾ ﴿مَتاعًا لَكم ولأنْعامِكُمْ﴾ ﴿فَإذا جاءَتِ الطامَّةُ الكُبْرى﴾ ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ ما سَعى﴾ ﴿وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ "نَكالَ" مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ، وقالَ قَوْمٌ: "الآخِرَةَ" قَوْلُهُ: ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، و"الأُولى" قَوْلُهُ: ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤]، ورُوِيَ أنَّهُ مَكَثَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤] أرْبَعِينَ سَنَةً، وقِيلَ: كانَتْ هَذِهِ المُدَّةُ بَيْنَ الكَلِمَتَيْنِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "الأُولى" قَوْلُهُ: ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، و"الآخِرَةِ" قَوْلُهُ: ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤]، وقالَ أبُو رُزَيْنٍ: الأُولى كُفْرُهُ وعِصْيانُهُ، والآخِرَةُ قَوْلُهُ: ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤] وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الأُولى الدُنْيا، والآخِرَةُ الدارُ الآخِرَةِ، أيْ: أخَذَهُ اللهُ تَعالى بِعَذابِ جَهَنَّمَ وبِالغَرَقِ في الدُنْيا، وقالَ مُجاهِدٌ: عِبارَةٌ عن أوَّلِ مَعاصِيهِ وكُفْرِهِ وآخِرِها، أيْ نَكَلَ بِالجَمِيعِ، (p-٥٣٢)وَ"نَكالَ" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، والعامِلُ فِيهِ عَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ "أخَذَ"؛ لِأنَّهُ في مَعْناهُ، وعَلى رَأْيِ أبِي العَبّاسِ المُبَرِّدِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ مِن لَفْظِ "نَكالَ"، كَأنَّهُ قالَ: نَكَّلَهُ نَكالَ. ثُمَّ وقَفَ تَعالى عَلى مَوْضِعِ العِبْرَةِ بِحالِ فِرْعَوْنَ، وتَعْذِيبِهِ، وفي الكَلامِ وعِيدٌ لِلْكُفّارِ المُخاطَبِينَ بِرِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ثُمَّ وقَّفَهم مُخاطَبَةً مِنهُ تَعالى لِجَمِيعِ العالَمِ، والمَقْصِدُ الكَفّارُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: "ءأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا" الآيَةُ. وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ بَعْثَ الأجْسادِ مِنَ القُبُورِ لا يَتَعَذَّرُ عَلى قُدْرَةِ اللهِ تَعالى، و"السُمْكُ" الِارْتِفاعُ الَّذِي بَيْنَ سَطْحِ السَماءِ الأسْفَلِ الَّذِي يَلِينا وبَيْنَ سَطْحِها الأعْلى الَّذِي يَلِي ما فَوْقَها، وقَوْلُهُ تَعالى: "فَسَوّاها" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: خَلَقَها مَلْساءَ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ فِيها مُرْتَفَعٌ ومُنْخَفَضٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عن إتْقانِ خَلْقِها، ولا يُقْصَدُ مَعْنى إمْلاسِ سَطْحِها، واللهُ تَعالى أعْلَمُ كَيْفَ هي. و"أغْطَشَ" مَعْناهُ: أظْلَمُ، والأغْطَشُ: الأعْمى، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ نَحَرْتُ لَهم مُوهِنًا ناقَتِي ولَيْلُهم مُدْلَهِمٌّ غَطْشُ ونَسَبَ اللَيْلَ والضُحى إلَيْها مِن حَيْثُ هُما ظاهِرانِ مِنها وفِيها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ مُتَوَجِّهٌ عَلى أنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ الأرْضَ ولَمْ يَدَحْها، ثُمَّ اسْتَوى إلى السَماءِ وهي دُخانٌ فَخَلَقَها وبَناها، ثُمَّ دَحا الأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، وقَرَأ مُجاهِدٌ: و"الأرْضَ مَعَ ذَلِكَ"، وقالَ قَوْمٌ: إنَّ "بَعْدَ ذَلِكَ" مَعْناهُ: مَعَ ذَلِكَ، والَّذِي قُلْناهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ آياتُ القُرْآنِ كُلُّها، ونَسَبَ الماءَ والمَرْعى إلى الأرْضِ مِن حَيْثُ هُما مِنها يَظْهَرانِ، ودَحْوُ الأرْضِ: بَسْطُها، ومِنهُ قَوْلُ أُمِّيَّةَ بْنِ أبِي الصَلْتِ: ؎ دارٌ دَحاها ثُمَّ أسْكَنَنا بِها ∗∗∗ وأقامَ بِالأُخْرى الَّتِي هي أمْجَدُ (p-٥٣٣)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "والأرْضَ" نَصْبًا، وقَرَأ الحَسَنُ، وعِيسى: "والأرْضُ" بِالرَفْعِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: و"الجِبالَ أرْساها" نَصْبًا، وقَرَأ الحَسَنُ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: "والجِبالُ" رَفْعًا، و"أرْساها" مَعْناهُ: أثْبَتَها، وجَمَعَ هَذِهِ النِعَمَ إذا تَدَبَّرَتْ فَهي مَتاعٌ لِلنّاسِ و"الأنْعامَ"، يَتَمَتَّعُونَ فِيها وبِها، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مَتاعًا" بِالنَصْبِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "مَتاعٌ" بِالرَفْعِ. و"الطامَّةُ الكُبْرى" هي القِيامَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَحّاكُ، وقالَ الحَسَنُ، وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: النَفْخَةُ الثانِيَةُ، وقَوْلُهُ تَعالى: "ما سَعى" مَعْناهُ: ما عَمِلَ مِن سائِرِ عَمَلِهِ، ويَتَذَكَّرُ ذَلِكَ بِما يَرى مِن جَزائِهِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَبُرِّزَتْ" بِضَمِّ الباءِ وشَدِّ الراءِ المَكْسُورَةِ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ، ومالِكُ بْنُ دِينارٍ، وعائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: "وَبَرَزَتْ" بِفَتْحِ الباءِ والراءِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لِمَن يَرى" بِالياءِ أيْ: لِمَن يُبْصِرُ ويَحْصُلُ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ، ومالِكُ بْنُ دِينارٍ، وعائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: "لِمَن تَرى" بِالتاءِ أيْ: تَراهُ أنْتَ يا مُحَمَّدُ، فالإشارَةُ إلى كُفّارِ مَكَّةَ، أو إشارَةً إلى الناسِ والقَصْدُ كُفّارُ مَكَّةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لِمَن تَراهُ الجَحِيمُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ [الفرقان: ١٢]، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "لِمَن رَأى" عَلى فِعْلٍ ماضٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب