الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدًا ولا شَرابًا﴾ ﴿إلا حَمِيمًا وغَسّاقًا﴾ ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ ﴿إنَّهم كانُوا لا يَرْجُونَ حِسابًا﴾ ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذّابًا﴾ ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْناهُ كِتابًا﴾ ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكم إلا عَذابًا﴾ ﴿إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازًا﴾ ﴿حَدائِقَ وأعْنابًا﴾ ﴿وَكَواعِبَ أتْرابًا﴾ ﴿وَكَأْسًا دِهاقًا﴾ ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا كِذّابًا﴾ ﴿جَزاءً مِن رَبِّكَ عَطاءً حِسابًا﴾ ﴿رَبِّ السَماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما الرَحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنهُ خِطابًا﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والكِسائِيُّ، والفَضْلُ بْنُ خالِدٍ، ومُعاذٌ النَحْوِيُّ: البَرْدُ في هَذِهِ الآيَةِ النُوَّمُ، والعَرَبُ تَسِمُهُ بِذَلِكَ لِأنَّهُ يَبْرِدُ سُورَةَ العَطَشِ، ومِن كَلامِهِمْ: "مَنَعَ البَرْدُ البَرْدَ"، وقالَ جُمْهُورُ الناسِ: "البَرْدُ في الآيَةِ: مَسُّ الهَواءِ البارِدِ، وهو القَرُّ، أيْ: لا يَمَسُّهم مِنهُ ما يَسْتَلِذُّ ويَكْسِرُ عَذابَ الحَررِّ، فالذَوْقُ -عَلى هَذَيْنَ القَوْلَيْنِ- مُسْتَعارٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: البَرْدُ الشَرابُ البارِدُ المُسْتَلَذُّ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ بْنِ ثابِتٍ: ؎ يَسْقُونَ مِن ورْدِ البَرِيصِ عَلَيْهِمْ بِرَدى يُصَفِّقُ بِالرَحِيقِ السَلْسَلِ (p-٥٢٠)وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ أمانِي مِن سُعْدى حِسانٌ كَأنَّما ∗∗∗ سَقَتْكَ بِها سُعْدى عَلى ظَمَأٍ بَرْدا ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا شَرابًا﴾ ﴿إلا حَمِيمًا﴾، فالِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ، و"الحَمِيمُ": الحارُّ الذائِبُ، وأكْثَرُ اسْتِعْمالِهِ في الماءِ السُخْنِ والعَرَقِ، ومِنهُ الحَمّامُ، وقالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الحَمِيمُ دُمُوعُ أعْيُنِهِمْ، وقالَ النَقّاشُ: الحَمِيمُ الصُفْرُ المُذابُ المُتَناهِي الحَرِّ، واخْتَلَفَ الناسُ في "الغَسّاقِ"، فَقالَ قَتادَةُ، والنَخْعِيُّ، وجَماعَةٌ: هو ما يَسِيلُ مِن أجْسامِ أهْلِ النارِ مِن صَدِيدٍ ونَحْوِهِ، يُقالُ: غَسَقَ الجُرْحُ: إذا سالَ مِنهُ قَيْحٌ ودَمٌ، وغَسَقَتِ العَيْنُ: إذا دَمَعَتْ وإذا خَرَجَ قَذاها، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: الغَسّاقُ مَشْرُوبٌ لَهم مُفْرِطُ الزَمْهَرِيرِ، كَأنَّهُ في الطَرَفِ الثانِي مِنَ الحَمِيمِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِبَرْدِهِ. وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ بِرِيدَةَ: "الغَسّاقُ" المُنْتِنُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وجَماعَةٌ مِنَ الجُمْهُورِ: "غَساقًا" مُخَفَّفَةَ السِينِ، وهو اسْمٌ عَلى ما قَدَّمْناهُ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، والشَعْبِيُّ، والحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وقَتادَةُ، وابْنُ وثّابٍ: "غَسّاقًا" مُشَدَّدَةَ السِينِ، وهي صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقامَ المَوْصُوفِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: ومَشْرُوبًا غَسّاقًا، أيْ سائِلٌ مِن أبْدانِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ مَعْناهُ: لِأعْمالِهِمْ وكُفْرِهِمْ، أيْ: هو جَزاؤُهُمُ الجَدِيرُ بِهِمْ، المُوافِقُ مَعَ التَحْذِيرِ لِأعْمالِهِمْ، فَهي كُفْرٌ والجَزاءُ نارٌ. و"يَرْجُونَ" قالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: مَعْناهُ: يَخافُونَ، وقالَ غَيْرُهُ: الرَجاءُ هُنا عَلى بابِهِ، ولا رَجاءَ إلّا وهو مُقْتَرِنٌ بِخَوْفٍ، ولا خَوْفَ إلّا وهو مُقْتَرِنٌ بِرَجاءٍ، فَذَكَرَ أحَدَ القِسْمَيْنِ لِأنَّ المَقْصِدَ العِبارَةُ عن (p-٥٢١)تَكْذِيبِهِمْ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنَّهم كانُوا لا يُصَدِّقُونَ بِالحِسابِ، فَهم لِذَلِكَ لا يَرْجُونَهُ ولا يَخافُونَهُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "كَذّابًا" بِشَدِّ الذالِ وكَسْرِ الكافِ، وهو مَصْدَرٌ بِلُغَةِ بَعْضِ العَرَبِ، وهي يَمانِيَةٌ، ومِنهُ قَوْلُ أحَدِهِمْ وهو يَسْتَفْتِي: "الحَلْقُ أحَبُّ إلَيْكَ أمِ القِصّارُ"؟ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ لَقَدْ طالَما ثَبَّطَتْنِي عن صَحابَتَيْ ∗∗∗ وعن حِوَجٍ قَضاؤُها مِن شِفائِيا وهَذا عِنْدَهم مَصْدَرٌ مَن فَعَّلَ، وقالَ الطَبَرِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفِ القُرّاءُ في هَذا المَوْضِعِ في "كِذّابًا"، وأراهُ أرادَ السَبْعَةَ، وأمّا في الشاذِّ فَقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وعَوْفُ الأعْرابِيُّ، وعِيسى -بِخِلافٍ- والأعْمَشُ، وأبُو رَجاءٍ: "كِذّابًا" بِكَسْرِ الكافِ وبِتَخْفِيفِ الذالِ، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: "كُذّابًا" بِضَمِّ الكافِ وشَدِّ الذالِ عَلى أنَّهُ جَمْعُ كاذِبٍ، ونَصْبُهُ عَلى الحالِ، قالَهُ أبُو حاتِمٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْناهُ﴾ يُرِيدُ كُلَّ شَيْءٍ شَأْنُهُ أنْ يُحْصى، وفي هَذا الخَبَرِ رَبْطٌ لِأجْزاءِ القِصَّةِ بِأوَّلِها أيْ: هم مُكَذِّبُونَ وكافِرُونَ ونَحْنُ قَدْ أحْصَيْنا فالقَوْلُ لَهم في الآخِرَةِ: "ذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكم إلّا عَذابًا"، وكانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما يَقُولُ: ما نَزَلَتْ في أهْلِ النارِ آيَةٌ أشَدُّ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكم إلا عَذابًا﴾ ورَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ. (p-٥٢٢)وَلَمّا ذَكَرَ تَعالى أمْرَ أهْلِ النارِ عَقَّبَ بِذِكْرِ أهْلِ الجَنَّةِ لِيُبَيِّنَ الفَرْقَ، و"المَفازُ" مَوْضِعُ الفَوْزِ؛ لِأنَّهم زُحْزِحُوا عَنِ النارِ، وأُدْخِلُوا الجَنَّةَ، و"الحَدائِقُ" البَساتِينُ الَّتِي عَلَيْها جِدْراتٌ أوَ حَظائِرُ، و"أتْرابًا" مَعْناهُ: عَلى سِنٍّ واحِدَةٍ، والتُرْبانُ هُما اللَذانِ مَسّا التُرابَ في وقْتٍ واحِدٍ، و"الدِهاقُ" المُتْرَعَةُ فِيما قالَ الجُمْهُورُ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ مَعْناهُ: المُتابَعَةُ، وهي مِنَ الدَهْقِ، وقالَ عِكْرِمَةُ: هي الصافِيَةُ، وفي البُخارِيِّ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: سَمِعْتُ أُبَيَّ في الجاهِلِيَّةِ يَقُولُ لِلسّاقِي: اسْقِنا كَأْسًا دِهاقًا. و"اللَغْوُ" سَقْطُ الكَلامُ، وهو ضُرُوبٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في "كِذّابًا" إلّا أنَّ الكِسائِيَّ مِنَ السَبْعَةِ قَرَأ في هَذا المَوْضِعِ "كَذابًا" بِالتَخْفِيفِ، وهو مَصْدَرٌ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها والمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذابُهُ واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: "حِسابًا"، فَقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ واللُغَوِيِّينَ: مَعْناهُ: مُحْسِبًا، أيْ كافِيًا، مِن قَوْلِهِمْ: أحْسَبُنِي هَذا الأمْرَ، أيْ كَفانِي، ومِنهُ، حَسْبِيَ اللهُ، وقالَ مُجاهِدٌ مَعْناهُ: إنَّ "حِسابًا" مَعْناهُ: مُقْسِطًا عَلى الأعْمالِ، لِأنَّ نَفْسَ دُخُولِ الجَنَّةِ هو بِرَحْمَةِ اللهِ وتَفَضُّلِهِ لا بِعَمَلٍ، والدَرَجاتُ فِيها والنِعَمُ عَلى قَدْرِ الأعْمالِ، فَإذا ضاعَفَ اللهُ تَعالى لِقَوْمٍ حَسَناتِهِمْ بِسَبْعِمائَةٍ مَثَلًا ومِنهُمُ المُكْثِرُ مِنَ الأعْمالِ والمُقِلُّ أخَذَ كُلَّ واحِدٍ سَبْعَمِائَةٍ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، وكَذَلِكَ في كُلِّ تَضْعِيفٍ، فالحِسابُ ها هو بِمُوازَنَةِ أعْمالِ القَوْمِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ "حِسابًا" بِكَسْرِ الحاءِ وتَخْفِيفِ السِين مَفْتُوحَةً، وقَرَأ ابْنُ قَطِيبٍ "حِسابًا" بِفَتْحِ الحاءِ وشَدِّ السِينِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: جاءَ بِالِاسْمِ مِن أفْعَلَ عَلى فِعالٍ كَما قالُوا: أدْرَكَ فَهُوَ: دِراكٌ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وسِراجٌ: " عَطاءً حَسَنًا" بِالنُونِ مِنَ الحُسْنِ، وحَكى عنهُ المَهْدَوِيُّ أنَّهُ قَرَأ: (p-٥٢٣)"حَسِبا" بِفَتْحِ الحاءِ وسُكُونِ السِينِ وبِالباءِ، وقَرَأ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ الحِمْصِيُّ: "حِسّابًا" بِكَسْرِ الحاءِ وشَدِّ السِينِ المَفْتُوحَةِ، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، والأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وأهْلُ الحَرَمَيْنِ: "رَبُّ" بِالرَفْعِ، وكَذَلِكَ "الرَحْمَنُ"، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ وابْنُ مُحَيْصِنٍ، والأعْمَشُ: "رَبِّ" بِالخَفْضِ، وكَذَلِكَ "الرَحْمَنِ". وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "رَبِّ": بِالخَفْضِ، و"الرَحْمَنُ" بِالرَفْعِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وابْنِ وثّابٍ، والأعْمَشِ، وابْنِ مُحَيْصِنٍ- بِخِلافٍ عنهُما ووُجُوهُ هَذِهِ القِراءاتِ بَيِّنَةٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: "لا يَمْلِكُونَ مِنهُ خِطابًا" الضَمِيرُ لِلْكُفّارِ، أيْ: لا يَمْلِكُونَ مِن أفْضالِهِ وإجْمالِهِ أنْ يُخاطِبُوهُ بِمَعْذِرَةٍ ولا غَيْرِها، وهَذا في مَوْطِنٍ خاصٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب