الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿انْطَلِقُوا إلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ ﴿انْطَلِقُوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ﴾ ﴿لا ظَلِيلٍ ولا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ﴾ ﴿إنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ﴾ ﴿كَأنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ﴾ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ ﴿هَذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ ﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهم فَيَعْتَذِرُونَ﴾ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْناكم والأوَّلِينَ﴾ ﴿فَإنْ كانَ لَكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "انْطَلِقُوا"، هو لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ لَهُمُ الوَيْلُ يُقالُ لَهُمْ: انْطَلِقُوا إلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِن عَذابِ الآخِرَةِ، ولا خِلافَ في كَسْرِ اللامِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: "انْطَلِقُوا" في هَذا الأمْرِ الأوَّلِ، وقَرَأ يَعْقُوبُ- في رِوايَةِ رُوَيْسٍ: "انْطَلَقُوا إلى ظِلٍّ" بِفَتْحِ اللامِ عَلى مَعْنى الخَبَرِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "انْطَلِقُوا" بِكَسْرِ اللامِ، عَلى مَعْنى تَكْرَيرِ الأمْرِ الأوَّلِ، وبَيانِ المُنْطَلَقِ إلَيْهِ، وقالَ عَطاءٌ: الظِلُّ الَّذِي لَهُ ثَلاثُ شُعَبٍ هو دُخانُ جَهَنَّمَ، ورُوِيَ أنَّهُ يَعْلُو مِن ثَلاثَةِ مَواضِعَ فيَراهُ الكُفّارُ فَيَظُنُّونَ أنَّهُ مُغْنٍ فَيَهْرَعُونَ إلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ عَلى أسْوَأِ وصْفٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هَذِهِ المُخاطَبَةُ إنَّما تُقالُ يَوْمَئِذَ لِعَبَدَةِ الصَلِيبِ إذا اتَّبَعَ كُلُّ أحَدٍ ما كانَ يَعْبُدُ، فَيَكُونُ المُؤْمِنُونَ في ظِلِّ اللهِ تَعالى، ولا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ، ويُقالُ لِعَبَدَةِ الصَلِيبِ انْطَلِقُوا إلى ظِلِّ مَعْبُودِكم وهو الصَلِيبُ ولَهُ ثَلاثُ شُعَبٍ، والتَشَعُّبُ تُفَرُّقُ الجِسْمِ الواحِدِ فِرَقًا، ثُمَّ نَفى عنهُ تَعالى مَحاسِنَ الظِلِّ. والضَمِيرُ في "إنَّها" لِجَهَنَّمَ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ "بِشَرارِ" بِألِفٍ، جَمْعُ شَرارَةَ، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ، و"القَصْرُ" في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وجَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ: اسْمُ نَوْعٍ (p-٥٠٨)القُصُورُ، وهُى الأدْؤُرُ الكِبارِ مُشَيَّدَةً، وقَدْ شَبَّهَتِ العَرَبُ بِها النُوقَ، ومِنَ المَعْنى قَوْلُ الأخْطَلِ: ؎ كَأنَّها بُرْجٌ رُومِيٌّ يُشَيِّدُهُ لُزَّ بِجِصٍّ وآجُرٍّ وأحْجارِ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "القَصْرُ" أيْضًا خَشَبٌ كانَ في الجاهِلِيَّةِ يُقْطَعُ مِن جَزْلِ الحَطَبِ مِنَ النَخْلِ وغَيْرِهِ، عَلى قَدْرِ الذِراعِ وفَوْقَهُ ودُونَهُ، يَسْتَعِدُّ بِهِ لِلشِّتاءِ، يُسَمّى القَصْرُ، واحِدُهُ قَصْرَةٌ وهو المُرادُ في الآيَةِ، وإنَّما سُمِّيَ بِالقَصّارِ لِأنَّهُ يُحْيطُ بِالقَصْرَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: "القَصْرُ" حِزَمُ الحَطَبِ، وهَذِهِ قِراءَةُ الجُمْهُورِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وابْنُ جُبَيْرٍ: "كالقَصْرِ" بِفَتْحِ الصادِ، جَمْعُ قَصْرَةٍ وهي أعْناقُ الخَيْلِ والإبِلِ، وكَذَلِكَ أيْضًا هي في الناسِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: جُذُورُ النَخْلِ، وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ أيْضًا والحَسَنُ: "كالقِصَرِ" بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الصادِ، وهي جَمْعُ قَصْرَةٍ كَحَلْقَةٍ وحِلَقٍ مِنَ الحَدِيدِ. واخْتَلَفَ الناسُ في "الجَمالاتِ"، فَقالَ جُمْهُورٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هي جَمْعُ "جِمالٍ" عَلى صَحِيحِ البِناءِ كَرِجالٍ ورِجالاتٍ، وقالَ آخَرُونَ: أرادَ بِالصُفْرِ: السُودُ، وأنْشَدَ عَلى ذَلِكَ بَيْتَ الأعْشى: ؎ تِلْكَ خَيْلِي مِنهُ، وتِلْكَ رِكابِي ∗∗∗ هُنَّ صُفْرُ أولادِها كالزَبِيبِ (p-٥٠٩)وَقالَ جُمْهُورُ الناسِ: بَلْ "الصُفْرُ": الفاقِعَةُ لِأنَّها أشْبَهُ بِلَوْنِ الشَرَرِ، وشَبَّهَ الشَرَرَ بِالجِمالاتِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "صُفُرٌ" بِضَمِّ الصادِ والفاءِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ: الجِمالاتُ قُلُوسُ السُفُنِ، وهي جِمالاتُها العِظامُ إذا جُمِعَتْ مُسْتَدِيرَةً بَعْضُها إلى بَعْضٍ جاءَ مِنها أجْرامٌ عِظامٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "الجِمالاتُ" قِطَعُ النُحاسِ الكِبارِ، وكانَ اشْتِقاقُ هَذِهِ مِنَ اسْمِ الجُمْلَةِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ. "جِمالَةٌ" بِكَسْرِ الجِيمِ لَحِقَتِ التاءَ جِمالًا لِتَأْنِيثِ الجَمْعِ فَهي كَحِجْرٍ وحِجارَةٍ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، والأعْمَشُ: "جُمالَةٌ" بِضَمِّ الجِيمِ، وقَرَأ باقِي السَبْعَةِ والجُمْهُورُ وعُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ "جِمالاتٌ" عَلى ما تُفَسَّرُ بِكَسْرِ الجِيمِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وقَتادَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ - بِخِلافٍ عنهُما: "جُمالاتٌ" بِضَمِّ الجِيمِ، واخْتُلِفَ عن نافِعٍ وأبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ، وكانَ ضَمُّ الجِيمِ فِيها مِنَ الجُمْلَةِ لا مِنَ الجُمَلِ وكَسْرِها مِنَ الجِمَلِ لا مِنَ الجِمْلَةِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى المُكَذِّبِينَ قالَ مُخاطِبًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ "هَذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ" أيْ: يَوْمُ القِيامَةِ أسْكَتَتْهُمُ الهَيْبَةُ وذُلُّ الكُفْرِ، وهَذا في مَوْطِنٍ خاضِّ فَإنَّهم لا يَنْطِقُونَ فِيهِ؛ إذْ قَدْ نَطَقَ القُرْآنُ بِنُطْقِهِمْ: "رَبَّنا أخْرِجْنا"، "رَبَّنا أمِتْنا". فَهي مَواطِنُ، و"يَوْمَ" مُضافٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى: "لا يَنْطِقُونَ". وقَرَأ الأعْرَجُ، والأعْمَشُ، وأبُو حَيْوَةَ: "هَذا يَوْمٌ"، لَمّا أُضِيفَ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ بَناهُ، فَهي فَتْحَةُ بِناءٍ، وهو في مَوْضِعِ رَفْعٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا وتَكُونَ الإشارَةُ بِـ "هَذا" إلى رَمْيِها بِشَرَرٍ كالقَصْرِ، وقَوْلَهُ "فَيَعْتَذِرُونَ" مَعْطُوفٌ عَلى "يُؤْذَنُ" ولَمْ يُنْصَبْ في جَوابِ النَفْيِ لِتَشابُهِ رُءُوسِ الآيِ، والوَجْهانِ جائِزانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "هَذا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْناكُمْ" مُخاطَبَةٌ لِلْكُفّارِ يَوْمَئِذٍ، و"الأوَّلُونَ" المُشارُ (p-٥١٠)إلَيْهِمْ قَوْمُ نُوحِ وغَيْرُهم مِمَّنْ جاءَ في صَدْرِ الدُنْيا وعَلى وجْهِ الدَهْرِ. ثُمَّ وقَفَ تَعالى عَبِيدَهُ الكُفّارَ المُسْتَوْجَبِينَ عِقابَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: "فَإنْ كانَ لَكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ" أيْ إنْ كانَ لَكم حِيلَةٌ أو مَكِيدَةٌ تُنْجِيكم فافْعَلُوها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب