الباحث القرآني

(p-٥٠١)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ المُرْسَلاتِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ جُمْهُورِ المفَسِّرِينَ، وحَكى النَقّاشُ أنّهُ قِيلَ: إنَّ فِيها مِنَ المَدَنِيِّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ [المرسلات: ٤٨]، عَلى تَأْوِيلِ مَن قالَ إنَّها حِكايَةً عن حالِ المُنافِقِينَ، وإنَّها بِمَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيُدْعَوْنَ إلى السُجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: ٤٢]، وقال ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ السُوَرَةُ ونَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِخَيْبَرَ... الحَدِيثُ بِطُولِهِ. قوله عزّ وجلّ: ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ ﴿فالعاصِفاتِ عَصْفًا﴾ ﴿والناشِراتِ نَشْرًا﴾ ﴿فالفارِقاتِ فَرْقًا﴾ ﴿فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ ﴿عُذْرًا أو نُذْرًا﴾ ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ﴾ ﴿فَإذا النُجُومُ طُمِسَتْ﴾ ﴿وَإذا السَماءُ فُرِجَتْ﴾ ﴿وَإذا الجِبالُ نُسِفَتْ﴾ ﴿وَإذا الرُسُلُ أُقِّتَتْ﴾ ﴿لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ﴾ ﴿لِيَوْمِ الفَصْلِ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما يَوْمُ الفَصْلِ﴾ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: "المُرْسَلاتِ": الرُسُلُ إلى الناسِ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: والجَماعاتُ المُرْسَلاتُ، وقالَ أبُو صالِحٍ، ومُقاتِلٌ، وابْنُ مَسْعُودٍ: المُرْسَلاتِ: المَلائِكَةُ المُرْسَلَةُ بِالوَحْيِ وبِالتَعاقبِ عَلى العِبادِ طَرَفَيِ النَهارِ، وقالَ ابْنُ (p-٥٠٢)مسعود أيْضًا وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةَ: المُرْسَلاتِ: الرياح، وقال الحسن بن أبي الحسن: المُرْسَلاتِ: السحاب. و"عُرْفًا" معناه على القول الأول: عُرْفًا من الله وإفضالًا على عباده ببعثة الرسل عليهم السلام، ومنه قول الشاعر: ؎ من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس ويحتمل أن يريد بِقَوْلِهِ "عُرْفًا" متتابعة، على التشبيه بتتابع عرف الفرس وأعراف الجبال ونحو ذلك، والعرب تقول: "الناس إلى فلان عرف واحد" إذا توجهوا إليه، ويحتمل أن يريد: بِالعرف، أي بِالحق والأمر بِالمعروف، وهذه الأقوال في "عرفًا" تتجه في قول من قال: في المُرْسَلاتِ هى الملائكة، ومن قال إن المُرْسَلاتِ هى الرياح اتجه في "العرف" أن يقال: التأول على تخصيص الرياح التي هي نعمة بها الأرزاق والنجاة في البحر وغير ذلك مما لا نقمة فيه، ويكون الصنف الآخر من الريح في قَوْلِهِ تَعالى "فالعاصِفاتِ عَصْفًا"، ويحتمل أن يكون "عرفًا" بمعنى: والمُرْسَلاتِ الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها، ثم عقب بذكر الصنف المستنكر الضار وهي العاصفات، ويحتمل أن يريد بِالعرف مع الرياح التتابع كعرف الفرس ونحوه، وتقول العرب: "هب عرف من ريح"، والقول في العرف مع أن المُرْسَلاتِ هي الرياح يطرد على أن المُرْسَلاتِ السحاب، وقرأ عيسى: "عرفا" بضم الراء. و"العاصف" من الريح الشديدة العاصفة للشجر وغيره. واختلف الناس في قَوْلِهِ تَعالى: "والناشرات"، فقال مقاتل، والسُدِّيُّ: هي الملائكة تنشر صحف العباد بِالأعمال، وقال ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةَ: هي الرياح تنشر رحمة الله ومطره، وقال بعض المتأولين: الناشِراتِ طوائف الملائكة التى تباشر إخراج الموتى من قبورهم للبعث، فكأنهم يحيونهم، وقال قوم: الناشرات (p-٥٠٣)الرمم في بعث يوم القيامه، يقال: نشر الميت، ومنه قول الأعشى: ؎ ............ ∗∗∗ يا عجبًا للميت الناشرِ وقيل: الناشرات البقاع التى تحيا بِالأمطار، شبهت بِالميت ينشر، وقال أبو صالح: الناشرات الأمطار تحى الأرض. "فالفارقات"، قال ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأبو صالح، ومُجاهِدٌ، والضَحّاكُ: هى الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام، وقال قتاده، والحَسَنُ، وابْنُ كَيْسانَ: الفارقات آيات القران. وأما "الملقيات ذكرًا" فهى في قول الجمهور: الملائكة، قال مقاتل: جبريل عليه السلام ونحوه، وقال آخرون: هى الرسل عليهم السلام، وقرأ جمهور الناس: "فالملقيات" بسكون اللام، أى تلقيه من عند الله تعالى وبأمره إلى الرسل عليهم السلام وقرأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه -فيما ذكر المهدوى- "فالملقيات" بفتح اللام وفتح القاف وشدها أى تلقاه من قبل الله تعالى. وقرأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا "فالملقيات" بفتح اللام وشد القاف وكسرها أى: تلقيه هى للرسل عليهم السلام، و"الذكر" الكتب والشرائع ومضمناتها. وأختلف القراء في قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عُذْرًا أو نُذْرًا﴾، فقرأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ -فى رواية أبى بكر- وأبُو جَعْفَرٍ، وشيبة بسكون الذال في "عذرا" وضمها في "نذرا"، وقرأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكسائى، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، وإبراهيم التيمى بسكون الذال فيهما، وقرأ طَلْحَةُ، وعيسى، والحَسَنُ -بخلاف- وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وأبُو جَعْفَرٍ وأبُو حَيْوَةَ، والأعْمَشُ عن ابْنُ كَثِيرٍ عن عاصِمٍ بضمها فيها. وإسكان الذال على أنها مصدران، يقال: عذرا وعذير، ونذر ونذير، كنكير ونكر، وضم الذال يصح معه (p-٥٠٤)المصدر ويصح أن يكون جمعا لنذير وعاذر للذين هُما اسم فاعل، والمعنى أن الذكر يلقي بإعذار وإنذار، أو يلقيه معذورون ومنذرون، وأما النصب في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عُذْرًا أو نُذْرًا﴾ فيصح إذا كانا مصدرين أن يكون ذلك على البدل من "الذكر"، ويصح أن يكون على المفعول للذكر، كأنه تعالى قال: فالمُلْقِياتِ أن يذكر عُذْرًا، ويصح أن يكون "عُذْرًا" مفعولا من أجله، أي تلقي الذكر من أجل الإعذار وأما إذا كان "عُذْرًا أو نُذْرًا" جمعا فالنصب على الحال، وقرأ إبراهيم التيمي: "عذرا ونذرا" بواو بدل "أو". قَوْلُهُ تَعالى: "إنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ"، هذا الذي وقع عليه القسم والإشارة إلى البعث، و"طمس النجوم": إزالة أضوئها واستوائها مع سائر جرم السماء، و"فرج السماء" هو بانفطارها حتى تحدث فيها فروج، و"نسف الجبال" هو بعد التسيير، وقيل: كونها هباء وهو تفريقها بِالريح، وقرأ الجمهور: "أقتت" بِالهمزة وشد القاف، وقرأ بتخفيف القاف مع الهمز عيسى، وخالد، وقرأ أبُو عَمْرٍو وحده "وقتت" بِالواو، وقرأ بها أبو الأشهب، وعيسى، وعمرو بن عبيد، قال عيسى: هي لغة سفلى مضر، وقرأ أبُو جَعْفَرٍ بواو واحدة خفيفة القاف، وهي قراءة ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "ووقتت" بواوين، على وزن فوعلت، والمعنى: جعل لها وقت مسطر فجاء وحان، والواو في هذا كله هي الأصل والهمزة بدل. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ﴾ تعجيب وتوقي على عظم ذلك اليوم وهوله، ثم فَسَّرَ تعالى ذلك الذي عجب منه بقوله: "لِيَوْمِ الفَصْلِ" يعني تعالى: بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من جنة أو نار، وفي هذه الآية انتزع القضاة الآجال في الحكومات ليقع فصل القضاء عند تمامها ثم عظم سبحانه يوم الفصل بقوله: "وَما أدْراكَ ما يَوْمُ الفَصْلِ"، على نحو قَوْلُهُ تَعالى: "وَما أدْراكَ ما الحاقَّة" وغير ذلك، ثم أثبت تعالى الويل لِلْمُكَذِّبِينَ في ذلك اليوم، والمعنى: لِلْمُكَذِّبِينَ به في الدنيا وبسائر فصول الشرع، و"الويل": هو الحرب والحزن على نوائب تحدث بِالمرء، ويروى عن النعمان بن بشير، وابْنُ مَسْعُودٍ، وعمار بن ياسر، أن واديا في جهنم اسمه الويل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب