الباحث القرآني

(p-٤٦٩)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ القِيامَةِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ مِن أهْلِ التَأْوِيلِ، ورُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: مَن سَألَ عَنِ القِيامَةِ أو أرادَ أنْ يَعْرِفَ حَقِيقَةَ وُقُوعِها فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ السُورَةَ، وقالَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: يَقُولُ الناسُ: القِيامَةُ القِيامَةُ، وإنَّما قِيامَةُ المَرْءِ مَوْتُهُ، ورُوِيَ أيْضًا عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ حَضَرَ جِنازَةَ رَجُلٍ فَقالَ: أمّا هَذا فَقَدَ قامَتْ قِيامَتُهُ، ورُوِي مِثْلُهُ عن عَلْقَمَةِ، وذَكَرَهُ الثَعْلَبِيُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقِيامَةُ الرَجُلِ في خاصَّتِهِ لَيْسَتْ بِالقِيامَةِ الجامِعَةِ لِجَمِيعِ الخَلْقِ بَعْدَ البَعْثِ، لَكِنَّ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ كَأنَّهُ قالَ هَذا لِمَن يَسْتَبْعِدُ قِيامَ الآخِرَةِ، ويَظُنُّ طُولَ الأمَدِ بَيْنَهُ وبَيْنَها، فَتَوَعَّدَهُ بِقِيامِ نَفْسِهِ. قوله عزّ وجلّ: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ﴾ ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَفْسِ اللَوّامَةِ﴾ ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ ألَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ﴾ ﴿بَلى قادِرِينَ عَلى أنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ﴾ ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنْسانُ لِيَفْجُرَ أمامَهُ﴾ ﴿يَسْألُ أيّانَ يَوْمُ القِيامَةِ﴾ ﴿فَإذا بَرِقَ البَصَرُ﴾ ﴿وَخَسَفَ القَمَرُ﴾ ﴿وَجُمِعَ الشَمْسُ والقَمَرُ﴾ ﴿يَقُولُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ أيْنَ المَفَرُّ﴾ ﴿كَلا لا وزَرَ﴾ ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ﴾ ﴿يُنَبَّأُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وأخَّرَ﴾ ﴿بَلِ الإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ ﴿وَلَوْ ألْقى مَعاذِيرَهُ﴾ قَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ: "لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، والحَسَنُ -بِخِلافٍ عنهُ- والأعْرَجُ: "لِأُقْسِمَ بِيَوْمِ القِيامَةِ ولِأُقْسِمَ" فَأمّا القِراءَةُ الأُولى فاخْتُلِفَ في تَأْوِيلِها، فَقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: "لا" اسْتِفْتاحَ كَلامٍ بِمَنزِلَةِ "ألا"، وأنْشَدُوا عَلى ذَلِكَ(p-٤٧٠) ؎ فَلا وأبِيكَ ابْنَةَ العامِرِيِّ لا يُدْعى القَوْمُ أنِّي أفِرُّ وقالَ أبُو عَلِيٍّ: "لا" صِلَةَ زائِدَةٌ كَما زِيدَتْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِئَلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ﴾ [الحديد: ٢٩] ويُعْتَرَضَ هَذا بِأنَّ هَذِهِ في ابْتِداءِ كَلامٍ، ولا تُزادُ "لا" و"ما" ونَحْوَهُما مِنَ الحُرُوفِ إلّا في تَضاعِيفِ كَلامٍ، فَيَنْفَصِلُ عن هَذا بِأنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ كالسُورَةِ الواحِدَةِ وهو في مَعْنى الِاتِّصالِ فَجازَ فِيهِ هَذا. وقالَ الفَرّاءُ: "لا" نَفْيَ لِكَلامِ الكُفّارِ وزَجْرَ لَهم ورَدَّ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ تَعالى -عَلى هَذِهِ الأقْوالِ الثَلاثَةِ- قَوْلُهُ تَعالى: أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ، وأقْسَمَ اللهُ تَعالى بِيَوْمِ القِيامَةِ تَنْبِيهًا مِنهُ لِعَظَمَتِهِ وهَوْلِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ﴾ القَوْلُ في "لا" عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ. وأمّا القِراءَةُ الثانِيَةُ فَتَحْتَمِلُ أحَدَ أمْرَيْنِ: إمّا أنْ تَكُونَ اللامُ دَخَلَتْ عَلى فِعْلِ الحالِ، والتَقْدِيرُ: لَأنا أُقْسِمُ، فَلا تَلْحَقُ النُونَ إنَّما تَدْخُلُ في الأكْثَرِ لِتُفَرِّقَ بَيْنَ فِعْلِ الحالِ والفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ، فَهي تَلْزَمُ المُسْتَقْبَلَ في الأكْثَرِ، وإمّا أنْ يَكُونَ الفِعْلُ خالِصًا لِلِاسْتِقْبالِ، فَكَأنَّ الوَجْهُ والأكْثَرُ أنْ تَلْحَقَ النُونَ، إمّا الخَفِيفَةَ وإمّا الثَقِيلَةَ، لَكِنْ قَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أنَّ النُونَ قَدْ تَسْقُطُ مَعَ إرادَةِ الِاسْتِقْبالِ وتُغْنِي اللامُ عنها، كَما تَسْقُطُ اللامُ وتُغْنِي النُونُ عنها، وذَلِكَ في قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ وقَتِيلُ مُرَّةَ أثْأرُنَّ فَإنَّهُ ∗∗∗ فَرَغَ، وإنَّ قَتِيلَهم لَمْ يَثْأرِ (p-٤٧١)المُرادُ: لَأثارَنِ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: "وَلا أُقْسِمُ بِالنَفْسِ اللَوّامَةِ" فَقِيلَ: "لا" نافِيَةٌ، وإنَّ اللهَ تَعالى أقْسَمَ بِيَوْمِ القِيامَةِ ونَفى أنْ يُقْسِمَ بِالنَفْسِ اللَوّامَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الحَسَنُ، وقَدْ ذَهَبَ هَذا المَذْهَبَ قَوْمٌ مِمَّنْ قَرَأ: "لا أُقْسِمُ" وذَلِكَ قَلَقٌ، وهو في القِراءَةِ الثانِيَةِ أمْكَنُ، وجُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ عَلى أنَّ اللهَ تَعالى أقْسَمَ بِالأمْرَيْنِ. واخْتَلَفَ في "النَفْسِ اللَوّامَةِ"، ما مَعْناهُ؟ فَقالَ الحَسَنُ: هي اللَوّامَةُ لِصاحِبِها في تَرْكِ الطاعَةِ ونَحْوِهِ، فَهي -عَلى هَذا- مَمْدُوحَةٌ، ولِذَلِكَ أقْسَمَ اللهُ تَعالى بِها، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: هى الفاجِرَةُ الجَشِعَةُ اللَوّامَةُ لِصاحِبِها عَلى ما فاتَهُ مِن سَعْيِ الدُنْيا وأعْراضِها فَهي -عَلى هَذا- ذَمِيمَةٌ، وعَلى هَذا التَأْوِيلِ يَحْسُنُ نَفْيُ القَسَمِ بِها، والنَفْسُ في الآيَةِ اسْمُ جِنْسٍ لِنُفُوسِ البَشَرِ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ ما مَعْناهُ: إنَّ القَسَمَ بِها مِنَ اسْمِ الجِنْسِ لِأنَّها تَلُومُ عَلى الخَيْرِ والشَرِّ، وقِيلَ: المُرادُ نَفْسُ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ لِأنَّها لَمْ تَزَلْ لائِمَةً لَهُ عَلى فِعْلِهِ الَّذِي أخْرَجَهُ مِنَ الجَنَّةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكُلُّ نَفْسٍ مُتَوَسِّطَةٍ لَيْسَتْ بِالمُطَمْئِنَةِ ولا بِالأمّارَةِ بِالسُوءِ فَإنَّها لَوّامَةٌ في الطَرَفَيْنِ، مَرَّةً تَلُومُ عَلى تَرْكِ الطاعَةِ، ومَرَّةً تَلُومُ عَلى فَوْتٍ ما تَشْتَهِي، فَإذا اطْمَأنَّتْ خَلُصَتْ وصَفَتْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ﴾ تَقْرِيرٌ وتَوْبِيخٌ، و"الإنْسانُ" اسْمُ الجِنْسِ، وهَذِهِ أقْوالٌ كانَتْ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ، فَعَلَيْها الرَدُّ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "نَجْمَعَ عِظامَهُ" بِالنُونِ ونَصْبِ المِيمِ مِنَ العِظامِ، وقَرَأ قَتادَةُ بِالتاءِ ورَفَعَ المِيمَ مِنَ العِظامِ، ومَعْنى ذَلِكَ: في (p-٤٧٢)القِيامَةِ وبَعْدَ البَعْثِ مِنَ القُبُورِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِإدْغامِ العَيْنِ في العَيْنِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: "بَلى"، وهي إيجابُ ما نُفِي، وبابُها أنْ تَأْتِيَ بَعْدَ النَفْيِ، والمَعْنى: بَلْ نَجْمَعُها قادِرِينَ فَنَصَبَ "قادِرِينَ" عَلى الحالِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "قادِرُونَ" بِالرَفْعِ. وقالَ القَتَبِيُّ: "نُسَوِّيَ بَنانَهُ" مَعْناهُ: نُتْقِنُها سَوِيَّةً، والبَنانُ: الأصابِعُ، وكَأنَّ الكُفّارَ لَمّا اسْتَبْعَدُوا جَمْعَ العِظامِ بَعْدَ الفَناءِ، والإرْمامَ قِيلَ لَهُمْ: إنَّها تُجْمَعُ ويُسَوّى أكْثَرُها تَفَرُّقًا وأدَقُّها أجْزاءً وهي عِظامُ الأنامِلِ ومَفاصِلُها، وهَذا كُلُّهُ عِنْدَ البَعْثِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ "نُسَوِّيَ بَنانَهُ: نَجْعَلُها في حَياتِهِ هَذِهِ بِضْعَةً أو عَظْمًا واحِدًا كَخُفِّ البَعِيرِ لا تَفارِيقَ فِيهِ، فَكَأنَّ المَعْنى: قادِرِينَ الآنَ في الدُنْيا عَلى أنْ نَجْعَلَها دُونَ تَفَرُّقٍ فَتَقِلُّ مَنفَعَتُهُ بِيَدِهِ، فَكَأنَّ التَقْدِيرُ: بَلى نَحْنُ أهْلٌ أنْ نَجْمَعَها، قادِرِينَ عَلى إزالَةِ مَنفَعَتِهِ بِيَدِهِ، فَفي هَذا تَوَعَّدُ ما. والقَوْلُ الأوَّلُ أجْرى مَعَ رَصْفِ الكَلامِ، ولَكِنْ عَلى هَذا القَوْلِ الآخَرِ جُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنْسانُ لِيَفْجُرَ أمامَهُ﴾. قالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: الضَمِيرُ في "أمامَهُ" عائِدٌ عَلى الإنْسانُ، ومَعْنى الآيَةِ أنَّ الإنْسانَ إنَّما يُرِيدُ شَهَواتِهِ ومَعاصِيَهُ لِيَمْضِيَ فِيها أبَدًا قُدُمًا راكِبًا رَأْسَهُ ومُطِيعًا أمَلَهُ ومُسَوِّفًا بِتَوْبَتِهِ. قالَهُ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وعِكْرِمَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والضَحّاكُ والسُدِّيُّ، وقالَ السُدِّيُّ: المَعْنى لِيَظْلِمَ عَلى قَدْرِ طاقَتِهِ، وقالَ الضَحّاكُ: المَعْنى: يَرْكَبُ رَأْسَهُ في طَلَبِ الدُنْيا دائِمًا. وقَوْلُهُ تَعالى: "لِيَفْجُرَ" تَقْدِيرُهُ: لَكى يَفْجُرَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما ما يَقْتَضِي أنَّ الضَمِيرَ في "أمامَهُ" عائِدٌ عَلى "يَوْمِ القِيامَةِ"، والمَعْنى أنَّ الإنْسانَ هو في زَمَنِ وُجُودِهِ أمامَ يَوْمِ القِيامَةِ وبَيْنَ يَدَيْهِ، ويَوْمُ القِيامَةِ خَلْفَهُ، فَهو يُرِيدُ شَهَواتِهِ لِيَفْجُرَ في تَكْذِيبِهِ بِالبَعْثِ وغَيْرِ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ يَوْمِ القِيامَةِ، وهو لا يَعْرِفُ قَدْرَ الضَرَرِ الَّذِي هو فِيهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُرِيدُ الإنْسانُ لِيَفْجُرَ﴾ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: (p-٤٧٣) ؎ أرَدْتُ لِكَيْما يَعْرِفُ الناسُ أنَّها ∗∗∗ سَراوِيلُ قَيْسٍ والوُفُودُ شُهُودُ و"بَلْ" في أوَّلِ الآيَةِ إضْرابٌ عَلى مَعْنى التَرْكِ لا عَلى مَعْنى إبْطالِ الكَلامِ الأوَّلِ، وقَدْ تَجِيءُ "بَلْ" لِإبْطالِ القَوْلِ الَّذِي قَبْلَها. وسُؤالُ الكافِرِ "أيّانَ يَوْمُ القِيامَةِ" هو عَلى مَعْنى التَكْذِيبِ والهَزْءِ، كَما تَقُولُ لِمُحَدِّثٍ بِأمْرٍ تُكَذِّبُهُ: مَتى يَكُونُ هَذا؟ و"أيّانَ" لَفْظَةٌ بِمَعْنى "مَتى"، وهي مُبَيِّنَةٌ لِتَضَمُّنِها مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، فَأشْبَهَتِ الحُرُوفُ المُتَضَمَّنَةُ المَعانِيَ، وكانَ حَقُّها أنْ تُبْنى عَلى السُكُونِ، ولَكِنْ فُتِحَتِ النُونُ لِالتِقاءِ الساكِنَيْنِ: الألِفُ وهي. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والجَحْدَرِيُّ، وعاصِمٌ، والأعْمَشُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: "بَرِقَ" بِكَسْرِ الراءِ بِمَعْنى: شَخَصَ وشَقَّ وحارَ، وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ بِخِلافٍ- وعَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي إسْحاقَ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ: "بَرَقَ" بِفَتْحِ الراءِ بِمَعْنى: لَمَعَ وصارَ لَهُ بَرْقٌ عِنْدَ المَوْتِ، والمَعْنى مُتَقارِبٌ في القِراءَتَيْنِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: بَرَقَ بِالفَتْحِ: شَقَّ، وقالَ مُجاهِدٌ: هَذا عِنْدَ المَوْتِ، وقالَ الحَسَنُ: هَذا في يَوْمِ القِيامَةِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَخَسَفَ القَمَرُ" عَلى أنَّهُ فاعِلٌ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "وَخُسِفَ" بِضَمِّ الخاءِ وكَسْرِ السِينِ "القَمَرَ" مَفْعُولٌ لِما يُسَمَّ فاعِلُهُ، يُقالُ خَسَفَ القَمَرُ وخَسَفَهُ اللهُ، وكَذَلِكَ الشَمْسُ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وجَماعَةٌ مِنَ اللُغَوِيِّينَ: الخُسُوفُ والكُسُوفُ بِمَعْنًى واحِدٍ، قالَ ابْنُ أبِي أُوَيْسٍ: الكُسُوفُ: ذَهابُ بَعْضِ النُورِ (p-٤٧٤)والخُسُوفُ: ذَهابُ جَمِيعِهِ، ورَوى عُرْوَةُ وسُفْيانُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "لا تَقُولُوا كَسَفَتِ الشَمْسُ ولَكِنْ قُولُوا خَسَفَتْ".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجُمِعَ الشَمْسُ والقَمَرُ﴾، غُلِبَ التَذْكِيرُ عَلى التَأْنِيثِ وقِيلَ: ذَلِكَ لِأنَّ تَأْنِيثَ الشَمْسِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وقِيلَ: المُرادُ: وجَمَعَ بَيْنَ الشَمْسِ والقَمَرِ، وكَذَلِكَ قَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، ولِذَلِكَ أسْقَطَ عَلامَةَ التَأْنِيثِ، وفى مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ "وَجَمَعَ بَيْنَ الشَمْسِ والقَمَرِ". واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى الجَمْع بَيْنَهُما، وقالَ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ: يُجْمَعانِ فَيُقْذَفانِ في النارِ، وقِيلَ: في البَحْرِ، فَيَصِيرُ نارَ اللهِ العُظْمى، وقِيلَ: يُجْمَعُ الضَوْءانِ فَيَذْهَبُ بِهِما. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "أيْنَ المَفَرُّ" بِفَتْحِ المِيمِ والفاءِ عَلى المَصْدَرِ، أيْ: أيْنَ الفِرارُ؟ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وعِكْرِمَةُ، وأيُّوبُ السِخْتِيانِيُّ، وكُلْثُومُ بْنُ عِياضٍ، ومُجاهِدٌ، ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ، وحَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وأبُو رَجاءٍ، وعِيسى، وابْنُ أبِي إسْحاقَ: "أيْنَ المَفَرُّ" بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ الفاءِ، عَلى مَعْنى: أيْنَ مَوْضِعُ الفِرارِ؟ وقَرَأ الزُهْرِيُّ: "أيْنَ المَفَرُّ" بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِ الفاءِ، بِمَعْنى: أيْنَ الجَيِّدُ الفِرارِ. و"كَلّا" زَجْرٌ يُقالُ لِلْإنْسانِ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ يُعْلِنُ أنَّهُ لا وِزْرَ لَهُ، أيْ لا مَلْجَأ ولا مُعِينَ، وعَبَّرَ المُفَسِّرُونَ عن "الوِزْرِ" بِالجَبَلِ، قالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِخِّيرِ وغَيْرُهُ: "وَهُوَ كانَ وِزْرَ فِرارِ العَرَبِ في بِلادِهِمْ فَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ" والحَقِيقَةُ أنَّهُ المَلْجَأُ جَبَلًا كانَ أو حِصْنًا أو سِلاحًا أو رَجُلًا أو غَيْرَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ﴾ مَعْناهُ: إلى حُكْمِ رَبِّكَ ونَحْوِهُ مِنَ التَقْدِيرِ، و"المُسْتَقَرُّ" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ في المُقَدَّرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ المَجْرُورُ المُتَقَدِّمُ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: المُسْتَقِرُّ ثابِتٌ أو كائِنٌ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ، والمُسْتَقَرُّ مَوْضِعُ الِاسْتِقْرارِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما قَدَّمَ وأخَّرَ﴾ قِسْمَةٌ تَسْتَوِفي كُلَّ عَمَلٍ، أيْ: يَعْلَمُ بِكُلِّ ما فَعَلَ، (p-٤٧٥)وَيَجِدُهُ مُحَصِّلًا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ: المَعْنى: بِما قَدَّمَ في حَياتِهِ وأخَّرَ مِن سَنَةٍ يَعْمَلُ بِها بَعْدَهُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: بِما قَدَّمَ مِنَ المَعاصِي وأخَّرَ مِنَ الطاعاتِ، وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: بِما قَدَّمَ مِن مالِهِ لِنَفْسِهِ وبِما أخَّرَ مِنهُ لِلْوارِثِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "بَلِ" إضْرابٌ بِمَعْنى التَرْكِ، لا عَلى مَعْنى إبْطالِ القَوْلِ الأوَّلِ، و"بَصِيرَةٌ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ "الإنْسانِ" ولَحِقَتْهُ هاءُ التَأْنِيثِ كَما لَحِقَتْ "عَلّامَةً، ونَسّابَةً"، والمَعْنى: إنَّهُ فِيهِ وفي عَقْلِهِ وفِطْرَتِهِ حُجَّةٌ وشاهِدٌ مُبْصِرٌ عَلى نَفْسِهِ، ولَوِ اعْتَذَرَ عن قَبِيحِ أفْعالِهِ فَهو يَعْلَمُ قُبْحَها، وكَذَلِكَ لَوِ اسْتَتَرَ بِسُتُورِهِ واخْتَفى بِأفْعالِهِ -عَلى التَأْوِيلَيْنِ في المَعاذِيرِ-: ويُحْتَمَلُ"بَصِيرَةً" أنْ يَكُونَ ابْتِداءً وخَبَرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلى نَفْسِهِ﴾ والهاءُ لِلتَّأْنِيثِ، ويُرادُ بِالبَصِيرَةِ جَوارِحُهُ، والمَلائِكَةُ الحَفَظَةُ، وهَذا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. و"المَعاذِيرُ" هُنا، قالَ الجُمْهُورُ: هي الأعْذارُ، جَمْعُ "مَعْذِرَةً"، وقالَ السُدِّيُّ، والضَحّاكُ: هي السُتُورُ بِلُغَةِ اليَمَنِ، يَقُولُونَ لِلسَّتْرِ، المِعْذارُ، وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى: بَلِ الإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَلِيَّةٌ ومِحْنَةٌ، كَأنَّهُ ذَهَبَ إلى البَصِيرَةِ الَّتِي هي طَرِيقَةُ الدَمِ وداعِيَةُ طَلَبِ الثَأْرِ. وفي هَذا نَظَرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب