الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما جَعَلْنا أصْحابَ النارِ إلا مَلائِكَةً وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانًا ولا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ والمُؤْمِنُونَ ولِيَقُولَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذا أرادَ اللهُ بِهَذا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هو وما هي إلا ذِكْرى لِلْبَشَرِ﴾ ﴿كَلا والقَمَرِ﴾ ﴿واللَيْلِ إذْ أدْبَرَ﴾ ﴿والصُبْحِ إذا أسْفَرَ﴾ ﴿إنَّها لإحْدى الكُبَرِ﴾ ﴿نَذِيرًا لِلْبَشَرِ﴾ ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَتَقَدَّمَ أو يَتَأخَّرَ﴾ ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ ﴿إلا أصْحابَ اليَمِينِ﴾ ﴿فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ﴾ ﴿عَنِ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿ما سَلَكَكم في سَقَرَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشاءُ﴾، أيْ: بِهَذِهِ الصِفَةِ وهَذا الرَيْنُ عَلى القُلُوبِ يَضِلُّ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ مِنَ المُسْلِمِينَ المُؤْمِنِينَ لِما ورَدَ، وذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِالقُدْرَةِ، ووُقُوفِ عُقُولِهِمْ عَلى كُنْهِ سُلْطانِ اللهِ تَعالى، فَهم مُوقِنُونَ مُتَصَوِّرُونَ صِحَّةَ ما أخْبَرَتْ بِهِ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَلامُ وكَتَبَ اللهُ تَعالى. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ﴾ إعْلامًا بِأنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ سُبْحانَهُ، (p-٤٦١)ما يُتَوَهَّمُ، وأنَّ الخَبَرَ إنَّما هو عن بَعْضِ القُدْرَةِ لا عن كُلِّها، والسَماءُ كُلُّها عامِرَةٌ بِأنْواعٍ مِنَ المَلائِكَةِ، كُلُّهم في عِبادَةٍ مُتَّصِلَةٍ، وخُشُوعٍ دائِمٍ وطاعَةٍ، لا فَتْرَةَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ ولا دَقِيقَةَ واحِدَةً. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما هي إلا ذِكْرى لِلْبَشَرِ﴾، قالَ مُجاهِدٌ: الضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "هِيَ" لِلنّارِ المَذْكُورَةِ، أيْ يَذْكُرُها البَشَرُ فَيَخافُونَها فَيُطِيعُونَ اللهَ تَعالى، وقالَ بَعْضُ الحُذّاقِ: قَوْلُهُ تَعالى: "وَما هِيَ" يُرادُ بِها الحالُ والمُخاطَبَةُ والنِذارَةُ، قالَ الثَعْلَبِيُّ: وقِيلَ: "وَما هِيَ" يُرادُ بِها الحالُ والمُخاطَبَةُ والنِذارَةُ، قالَ الثَعْلَبِيُّ: وقِيلَ: "وَما هى"يُرادُ نارَ الدُنْيا، أيْ: إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ لِلْبَشَرِ بِنارِ الآخِرَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى وجَلَّ: "كَلّا" رَدٌّ عَلى الكافِرِينَ وأنْواعِ الطاعِنِينَ عَلى الحَقِّ، ثُمَّ أقْسَمَ تَعالى بِالقَمَرِ، تَخْصِيصُ تَشْرِيفٍ وتَنْبِيهٍ عَلى النَظَرِ في عَجائِبِهِ، وقُدْرَةِ اللهِ تَعالى في حَرَكاتِهِ المُخْتَلِفَةِ الَّتِي هي مَعَ كَثْرَتِها واخْتِلافِها عَلى نِظامٍ واحِدٍ لا يَخْتَلُّ، وكَذَلِكَ هو القَسَمُ بِاللَيْلِ والصُبْحِ، فَيَعُودُ التَعْظِيمُ في آخِرِ الفِكْرَةِ وتَحْصِيلِ المَعْرِفَةِ إلى اللهِ تَعالى، مالِكُ الكُلِّ، وقِوامُ الوُجُودِ، ونُورُ السَماءِ والأرْضِ، لا إلَهَ إلّا هو العَزِيزُ الغَفّارُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ: "إذْ دَبَرَ" بِفَتْحِ الدالِ والباءِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ الزُبَيْرِ، وابْنِ المُسَيِّبِ، ومُجاهِدٍ، وعَطاءٍ، ويَحْيى بْنِ يَعْمُرَ، وأبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ، وأبِي الزِنادِ، وقَتادَةَ، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، والحَسَنِ، وطَلْحَةِ. وقَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ: "إذا أدْبَرَ" بِتَسْكِينِ الدالِ وفِعْلٍ رُباعِيٍّ، وهي قِراءَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وأبِي عَبْدِ الرَحْمَنِ، والحَسَنِ -بِخِلافٍ عنهُمْ- والأعْرَجِ، وأبِي شَيْخٍ، وابْنِ مُحَيْصِنٍ، وابْنِ سِيرِينَ. قالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: "دَبَّرَ" مَعْناهُ: انْقَضى، و"أدْبَرَ" مَعْناهُ: تَوَلّى، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ "إذْ أدْبَرَ" بِالألِفِ في "إذا" وألِفِ رُباعِيٍّ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وأبِي رُزَيْنٍ، وأبِي رَجاءٍ، ويَحْيى بْنِ يَعْمُرَ. وسَألَ مُجاهِدٌ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما عن "دُبُرِ اللَيْلِ"، فَتَرَكَهُ حَتّى إذا سَمِعَ المُنادِي الأوَّلَ لِلصُّبْحِ قالَ لَهُ: يا مُجاهِدٌ (p-٤٦٢)هَذا حِينَ دَبَرَ اللَيْلُ، وقالَ قَتادَةُ: "دَبَرَ اللَيْلُ": ولّى، قالَ الشاعِرُ: ؎ وأبِي الَّذِي تَرَكَ المُلُوكَ وجَمْعَهم ∗∗∗ بِهَضّامِ هامِدَةٍ كَأمْسِ الدابِرِ والعَرَبُ تَقُولُ في كَلامِها: "كَأمْسِ المُدَبِّرِ". قالَ أبُو عَلِيٍّ: فالقِراءَتانِ جَمِيعًا حَسَنَتانِ. وأسْفَرَ الصُبْحُ: أضاءَ وانْتَشَرَ ضَوْءُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ بِكَثِيرٍ، والإسْفارُ رُتِّبَ: أوَّلٌ ووَسَطٌ وآخِرٌ، ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ السَفْرُ والسِفْرُ والسَفِيرُ وسَفَرَتِ المَرْأةُ عن وجْهِها، وكُلُّها تَرْجِعُ إلى مَعْنى الظُهُورِ والِانْجِلاءِ، وقَرَأ عِيسى بْنُ الفُضَيْلِ، وابْنُ السَمَيْفَعِ: "إذا أسْفَرَ"، فَكَأنَّ المَعْنى: طَرَحَ الظُلْمَةَ عن وجْهِهِ، وضَعَّفَها أبُو حاتِم. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّها لإحْدى الكُبَرِ﴾ قالَ قَتادَةُ، وأبُو رُزَيْنٍ، وغَيْرُهُما الضَمِيرُ لِجَهَنَّمَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ لِلنِّذارَةِ وأمْرِ الآخِرَةِ، فَهو لِلْحالِ والقِصَّةِ، وتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قُلْ هو نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ [ص: ٦٧] ﴿أنْتُمْ عنهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص: ٦٨]، و"الكِبَرُ" جَمْعُ كَبِيرَةٍ، وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "لِإحْدى" بِهَمْزَةٍ في ألِفِ "إحْدى"، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أنَّهُ قَرَأ: "حِدى" دُون هَمْزَةٍ، وهي قِراءَةُ نَصْرِ بْنِ عاصِمٍ، قالَ أبُو عَلِيٍّ:التَخْفِيفُ في "لَإحْدى (p-٤٦٣)الكُبَرِ" أنْ تَجْعَلَ الهَمْزَةَ فِيها بَيْنَ بَيْنَ، فَأمّا حَذْفُ الهَمْزَةِ فَلَيْسَ بِقِياسٍ، وقَدْ جاءَ حَذْفُها، قالَ أبُو الأُسُودِ الدُؤَلِيُّ: ؎ يا أبا المُغِيرَةَ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ ∗∗∗ فَرَّجْتُهُ بِالنُكْرِ مِنِّي والَدَّها وأنْشَدَ ثَعْلَبٌ: ؎ إنْ لَمْ أُقاتِلْ فالبَسُونِي بُرْقُعًا.. ∗∗∗ وفَتَخاتٍ في اليَدَيْنِ أرْبَعًا وقَوْلُهُ تَعالى: "نَذِيرًا لِلْبَشَرِ"، قالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ لا نَذِيرَ أدْهى مِنَ النارِ، فَهَذا القَوْلُ يَقْتَضِي أنَّ "نَذِيرًا" حالٌ مِنَ الضَمِيرِ في "إنَّها"، أو مِن قَوْلِهِ تَعالى: "لَإحْدى"، وكَذَلِكَ أيْضًا عَلى الِاحْتِمالِ في أنْ تَكُونَ "إنَّها"، يُرادُ بِها قِصَّةَ الآخِرَةِ وحالَ المَعادِ. وقالَ أبُو رُزَيْنٍ: اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ هو النَذِيرُ، فَهَذا القَوْلُ يَقْتَضِي أنَّ "نَذِيرًا" مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: اعْبُدُوا نَذِيرًا لِلْبَشَرِ أوِ ادْعُوا نَذِيرًا لِلْبَشَرِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُحَمَّدٌ ﷺ، فَهَذا القَوْلُ يَقْتَضِي أنَّ "نَذِيرًا" مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ، نادِ نَذِيرًا، أو بَلِّغْ نَذِيرًا، ونَحْوُ هَذا ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "نَذِيرًا" مَصْدَرًا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾ [الملك: ١٨] ؟ وهَذا اخْتِيارُ الخَلِيلِ في هَذِهِ الآيَةِ، ذَكَرَهُ الثَعْلَبِيُّ، قالَ: ولِذَلِكَ يُوصَفُ بِهِ المُؤَنَّثُ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "نَذِيرٌ" بِالرَفْعِ عَلى إضْمارِ "هُوَ". وقَوْلُهُ تَعالى: لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَتَقَدَّمَ أو يَتَأخَّرَ، قالَ الحَسَنُ هو وعِيدٌ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَتَقَدَّمَ أو يَتَأخَّرَ﴾، قالَ الحَسَنُ: هو وعِيدٌ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكم ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَأْخِرِينَ﴾ [الحجر: ٢٤]. (p-٤٦٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: هُوَ بَيانٌ في النَذارَةِ، وإعْلامُ كُلِّ أحَدٍ يَسْلُكُ طَرِيقَ الهُدى والحَقِّ إذا حَقَّقَ النَظَرَ، أيْ: أو بِعَيْنِهِ يَتَأخَّرُ عن هَذِهِ الرُتْبَةِ بِغَفْلَتِهِ وسُوءِ نَظَرِهِ. ثُمَّ قَوِيَ هَذا المَعْنى بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ إذْ أُلْزِمَ بِهَذا القَوْلِ أنَّ المُقَصِّرَ مُرْتَهِنٌ بِسُوءِ عَمَلِهِ، وقالَ الضَحّاكُ: المَعْنى: كُلُّ نَفْسٍ حَقَّتْ عَلَيْها كَلِمَةُ العَذابِ، ولا يَرْتَهِنُ اللهُ تَعالى أحَدًا مِن أهْلِ الجَنَّةِ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. والهاءُ في "رَهِينَةٍ" لِلْمُبالَغَةِ، أو عَلى تَأْنِيثِ اللَفْظِ لا عَلى مَعْنى الإنْسانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا أصْحابَ اليَمِينِ﴾ اسْتِثْناءٌ ظاهِرُ الِانْفِصالِ، وتَقْدِيرُهُ: لَكِنَّ أصْحابَ اليَمِينِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهم لَمْ يَكْتَسِبُوا ما هم بِهِ مُرْتَهِنُونَ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أصْحابُ اليَمِينِ في هَذِهِ الآيَةِ أطْفالُ المُسْلِمِينَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هُمُ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَلامُ، وقالَ الضَحّاكُ: هُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهم مِنَ اللهِ الحُسْنى، وقالَ الحَسَنُ، وابْنُ كَيْسانَ: هُمُ المُسْلِمُونَ المُخْلِصُونَ، ولَيْسُوا بِمُرْتَهِنِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى حالَ أصْحابِ اليَمِينِ، وأنَّهم في جَنّاتٍ يَسْألُ بَعْضُهم بعضًا عَمَّنْ غابَ مِن مَعارِفِهِمْ، فَإذا عَلِمُوا أنَّهم مُجْرِمُونَ في النارِ قالُوا لَهم -أو قالَتِ المَلائِكَةُ-: "ما سَلَكَكم في سَقَرَ"، و"سَلَكَ" مَعْناهُ: أدْخَلَ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي وجْزَةَ السَعْدِيِّ: حَتّى سَلَكْنَ الشَوى مِنهُنَّ في مَسَكٍ مِن نَسْلِ جَوّابَةِ الآفاقِ مِهْداجِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب