الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ فَزادُوهم رَهَقًا﴾ ﴿وَأنَّهم ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أحَدًا﴾ ﴿وَأنّا لَمَسْنا السَماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا﴾ ﴿وَأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا﴾ ﴿وَأنّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا﴾
هَذِهِ الألِفُ مِن "أنَّهُ" اخْتَلَفَ في فَتْحِها وكَسْرِها والكَسْرُ أوجَهُ، والمَعْنى في الآيَةِ ما كانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُهُ في أسْفارِها وتُغْرِبُها في الرَعْيِ وغَيْرِهِ، فَإنَّ جُمْهُورَ المُفَسِّرِينَ رَوَوْا أنَّ الرَجُلَ كانَ إذا أرادَ المَبِيتَ والحُلُولَ في وادٍ صاحَ بِأعْلى صَوْتِهِ: يا عَزِيزُ هَذا (p-٤٢٩)الوادِي إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ السُفَهاءِ الَّذِينَ في طاعَتِكَ، فَيَعْتَقِدُ بِذَلِكَ أنَّ الجِنِّيَّ الَّذِي بِالوادِي يَمْنَعُهُ ويَحْمِيهِ، فَرُوِيَ أنَّ الجِنَّ كانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ: ما نَمْلِكُ لَكم ولِأنْفُسِنا مِنَ اللهِ شَيْئًا، قالَ مُقاتِلٌ: أوَّلُ مَن تَعَوَّذَ بِالجِنِّ قَوْمٌ مِن أهْلِ اليَمَنِ ثُمَّ بَنُو حَنِيفَةَ ثُمَّ فَشا ذَلِكَ في العَرَبِ، ورُوِيَ عن قَتادَةَ أنَّ الجِنَّ كانَتْ لِذَلِكَ تَحْتَقِرُ بَنِي آدَمَ وتَزْدَرِيهِمْ لِما يُرْوى مِن جَهْلِهِمْ، فَكانُوا يَزِيدُونَهم مَخافَةً، ويَتَعَرَّضُونَ لِلتَّخَيُّلِ لَهم بِمُنْتَهى طاقاتِهِمْ، ويُغْوُونَهم في إرادَتِهِمْ لَمّا رَأوا رِقَّةَ أحْلامِهِمْ، فَهَذا هو الرَهَقُ الَّذِي زادَتْهُ الجِنُّ بِبَنِي آدَمَ، وقالَ مُجاهِدٌ، والنَخْعِيُّ، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: بَنُو آدَمَ زادُوا الجِنَّ رَهَقًا وهي الجُرْأةُ والِانْتِخاءُ عَلَيْهِمْ والطُغْيانُ وغَشَيانُ المَحارِمِ والإعْجابُ لِأنَّهم قالُوا: سُدْنا الجِنَّ والإنْسَ، وقَدْ فَسَّرَ قَوْمٌ الرَهَقَ بِالإثْمِ، وأنْشَدَ الطَبَرِيُّ في ذَلِكَ بَيْتَ الأعْشى:
؎ لا شَيْءَ يَنْفَعُنِي مِن دُونِ رُؤْيَتِها ∗∗∗ هَلْ يَشْتَفِي وامِقُ ما لَمْ يُصِبْ رَهَقا؟
وقالَ مَعْناهُ: ما لَمْ يَغُشْ مُحْرَّمًا، فالمَعْنى: زادَتِ الجِنُّ الإنْسَ إثْمًا لِأنَّهم عَظَّمُوهم فَزادُوهُمُ اسْتِحْلالًا لِمَحارِمِ اللهِ تَعالى.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَأنَّهم ظَنُّوا" يُرِيدُ بَنِي آدَمَ الكُفّارَ، "كَما ظَنَنْتُمْ" مُخاطَبَةً لِقَوْمِهِمْ مِنَ الجِنِّ، وقَوْلُهُمْ: "أنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أحَدًا" يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما بَعْثُ الحَشْرِ مِنَ القُبُورِ، والآخَرُ بَعْثُ آدَمِيٍّ رَسُولًا، وً"أنْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ لَنْ يَبْعَثَ﴾ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَقِيلَةِ، وهي تَسُدُّ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ، وذَكَرَ المَهْدَوِيُّ تَأْوِيلًا أنَّ المَعْنى: وأنَّ الجِنَّ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيُّها الإنْسُ، فَهي مُخاطَبَةٌ مِنَ اللهِ تَعالى.
وقَوْلُهُمْ: "أنّا لَمَسْنا السَماءَ" مَعْناهُ: التَمَسْنا، ويَظْهَرُ بِمُقْتَضى كَلامِ العَرَبِ أنَّها اسْتِعارَةٌ لِتَجْرِيبِهِمْ أمْرَها وتَعَرُّضِهِمْ لَها، فَسُمِّيَ ذَلِكَ لَمْسًا إذْ كانَ اللَمْسُ غايَةَ غَرَضِهِمْ، ونَحْوُ هَذا قَوْلُالمُتَنَبِّي: (p-٤٣٠)
؎ تَعَدَّ القُرى والمِسْ بِنا الجَيْشَ لَمْسَةً ∗∗∗ ∗∗∗ نُبادِرْ إلى ما تَشْتَهِي يَدُكَ اليُمْنى
فَعَبَّرَ عن صَدْمِ الجَيْشِ بِالجَيْشِ وحَرْبِهِ بِاللَمْسِ، وهَذا كَما تَقُولُ: "المِسْ فُلانًا في أمْرِ كَذا" أيْ: جَرِّبْ مَذْهَبَهُ فِيهِ، و"مُلِئَتْ" إمّا أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثانِي لِـ "وَجَدْنا"، وإمّا أنْ يَقْصُرَ الفِعْلُ عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ ويَكُونُ "مُلِئَتْ" في مَوْضِعِ الحالِ، وكانَ الأعْرَجُ يَقْرَأُ "مُلِيتَ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، و"الشُهُبُ" كَواكِبُ الرَجْمِ، و"الحَرَسُ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الرَمْيَ بِالشُهُبِ وكَرَّرَ المَعْنى بِلَفْظٍ مُخْتَلِفٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ المَلائِكَةَ.
و"مَقاعِدَ" جَمْعُ مُقْعَدٍ، وقَدْ «فَسَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ صُورَةَ قُعُودِ الجِنِّ أنَّهم كانُوا واحِدًا فَوْقَ واحِدٍ، فَمَتى أحْرَقَ الأعْلى طَلَعَ الَّذِي تَحْتَهُ مَكانَهُ، فَكانُوا يَسْتَرِقُونَ الكَلِمَةَ فَيُبَلِّغُونَها إلى الكُهّانِ ويَزِيدُونَ مَعَها، ويَزِيدُ الكُهّانُ لِلْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ.» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ﴾ الآيَةُ... قَطَعَ عَلى أنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَمَعَ الآنَ أحْرَقَهُ شِهابٌ، فَلَيْسَ هُنا بَعْدَ سَمْعٍ، إنَّما الإحْراقُ عِنْدَ الِاسْتِماعِ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ الرَجْمَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ ولَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِمُسْتَأْصِلٍ، وكانَ الحَرَسُ ولَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَدِيدًا، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ اشْتَدَّ الأمْرُ حَتّى لَمْ يَكُنْ فِيهِ يَسِيرٌ ولا سَماحَةٌ، ويَدُلُّ عَلى هَذا «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ لِأصْحابِهِ وقَدْ رَأوا كَوْكَبًا راجِمًا: "ماذا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذا في الجاهِلِيَّةِ؟" قالُوا: كُنّا نَقُولُ: ولَدُ مَلَكٍ ماتَ مَلَكٌ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: "لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ"، ثُمَّ وصَفَ صُعُودَ الجِنِّ.»
(p-٤٣١)وَقَدْ قالَ عَوْفُ بْنُ الخَرْعِ -وَهُوَ جاهِلِيٌّ-:
؎ فانْقَضَّ كالدُرِّيِّ يَتْبَعُهُ ∗∗∗ نَقْعٌ يَثُورُ تَخالُهُ طَنْبًا
وهَذا في أشْعارِهِمْ كَثِيرٌ. و"رَصَدًا" نَعْتٌ لِلشِّهابِ، ووَصَفَهُ بِالمَصْدَرِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ﴾ الآيَةُ... مَعْناهُ: لا نَدْرِي، أيُؤْمِنُ الناسُ بِهَذا النَبِيِّ فَيُرْشِدُوا أمْ يَكْفُرُونَ بِهِ فَيَنْزِلُ بِهِمُ الشَرُّ؟
{"ayahs_start":6,"ayahs":["وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالࣱ مِّنَ ٱلۡإِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالࣲ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقࣰا","وَأَنَّهُمۡ ظَنُّوا۟ كَمَا ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَبۡعَثَ ٱللَّهُ أَحَدࣰا","وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ فَوَجَدۡنَـٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسࣰا شَدِیدࣰا وَشُهُبࣰا","وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن یَسۡتَمِعِ ٱلۡـَٔانَ یَجِدۡ لَهُۥ شِهَابࣰا رَّصَدࣰا","وَأَنَّا لَا نَدۡرِیۤ أَشَرٌّ أُرِیدَ بِمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدࣰا"],"ayah":"وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالࣱ مِّنَ ٱلۡإِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالࣲ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق