الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَرِيقَةِ لأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾ ﴿لِنَفْتِنَهم فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا﴾ ﴿وَأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أحَدًا﴾ ﴿وَأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ ﴿قُلْ إنَّما أدْعُو رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أحَدًا﴾ ﴿قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكم ضَرًّا ولا رَشَدًا﴾ ﴿قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أحَدٌ ولَنْ أجِدَ مِنَ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "اسْتَقامُوا". قالَ أبُو مِجْلَزٍ، والفَرّاءُ، والرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، والضَحّاكُ -بِخِلافٍ عنهُ-: هو عائِدٌ عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "مَن أسْلَمَ"، "الطَرِيقَةُ" طَرِيقَةُ الكُفْرِ، لَوْ كَفَرَ مَن أسْلَمَ مِنَ الناسِ لَأسْقَيْناهم ماءً إمْلاءً لَهم واسْتِدْراجًا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى "القاسِطِينَ"، والمَعْنى: عَلى طَرِيقَةِ الإسْلامِ والحَقِّ، وهَذا المَعْنى نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: (p-٤٣٤)﴿وَلَوْ أنَّ أهْلَ الكِتابِ آمَنُوا واتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عنهم سَيِّئاتِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٥]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ أنَّهم أقامُوا التَوْراةَ والإنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦]، وهَذا قَوْلٌ أبْيَنُ، لِأنَّ اسْتِعارَةَ الِاسْتِقامَةِ لِلْكُفْرِ قَلِقَةٌ. وقَرَأ الأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ: "وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا" بِضَمِّ الواوِ، وقالَ أبُو الفَتْحِ: هَذا تَشْبِيهٌ بِواوِ الجَماعَةِ ﴿اشْتَرَوُا الضَلالَةَ بِالهُدى﴾ [البقرة: ١٦]، والماءُ الغَدَقُ هو الماءُ الكَثِيرُ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "غَدَقًا" بِفَتْحِ الدالِ، وقَرَأ عاصِمٌ -فِي رِوايَةِ الأعْمَشِ عنهُ- بِكَسْرِها. وقَوْلُهُ تَعالى: "لِنَفْتِنَهم فِيهِ" إنْ كانَ المُسْلِمُونَ فَمَعْناهُ: لِنَخْتَبِرَهُمْ، وإنْ كانَ القاسِطُونَ فَمَعْناهُ: لِنَمْتَحِنَهم ونَسْتَدْرِجَهُمْ، وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "حَيْثُ يَكُونُ الماءُ فَثَمَّ المالُ، وحَيْثُ المالُ فَثَمَّ الفِتْنَةُ"، ونَزَعَ بِهَذِهِ الآيَةِ، وقالَ الحَسَنُ، وابْنُ المُسَيِّبِ، وجَماعَةٌ مِنَ التابِعِينَ: كانَتِ الصَحابَةُ مُطِيعِينَ سامِعِينَ، فَلَمّا فَتُحِتْ كُنُوزُ كِسْرى وقَيْصَرَ وثَبَ بِعُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ فَقَتَلَ وثارَتِ الفِتَنُ. و"يَسْلُكْهُ" مَعْناهُ: يَدْخُلْهُ، وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "يَسْلُكْهُ" بِفَتْحِ الياءِ أيْ: يَسْلُكُهُ اللهُ، وقَرَأ بَعْضُ التابِعِينَ "يُسْلِكُهُ" بِضَمِّ الياءِ، مِن أسْلَكَ، وهُما بِمَعْنًى، وقَرَأ باقِي السَبْعَةِ: "نَسْلُكُهُ" بِنُونِ العَظَمَةِ، وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ: "نَسْلُكُهُ" بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ ولامٍ مَكْسُورَةٍ، و"صَعَدًا" مَعْناهُ: شاقًّا، تَقُولُ: "فُلانٌ في صَعَدٍ مِن أمْرِهِ" أيْ في مَشَقَّةٍ، و"هَذا أمْرٌ يَتَصَعَّدُنِي"، وقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ "ما تَصَعَّدَنِي شَيْءُ كَما تَتَصَعَّدَنِي خُطْبَةُ النِكاحِ"، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: صَعِدَ: جَبَلٌ في النارِ، وقَرَأ قَوْمٌ: "صُعُدًا" بِضَمِّ الصادِ والعَيْنِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ الصادِ والعَيْنِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ بِضَمِّ الصادِ وفَتْحِ العَيْنِ، قالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ: لا راحَةَ فِيهِ. ومَن فَتَحَ الألِفَ مِن "وَأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ" جَعَلَها عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ﴾ [الجن: ١]، ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، و"المَساجِدَ" قِيلَ: أرادَ بِها البُيُوتَ الَّتِي هي لِلْعِبادَةِ والصَلاةِ في كُلِّ مِلَّةٍ، وقالَ الحَسَنُ: أرادَ كُلَّ مَوْضِعِ سَجَدَ فِيهِ، كانَ مَخْصُوصًا لِذَلِكَ أو لَمْ يَكُنْ؛ إذِ الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَغَلُّبِ قُرَيْشٍ عَلى (p-٤٣٥)الكَعْبَةِ حِينَئِذٍ، فَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: المَواضِعُ كُلُّها لِلَّهِ تَعالى فاعْبُدْهُ حَيْثُ كانَ، وقالَ ابْنُ عَطاءٍ: المَساجِدُ: الآرابُ الَّتِي يُسْجَدُ عَلَيْها، واحِدُها مَسْجَدٌ -بِفَتْحِ الجِيمِ-، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتِ الآيَةُ لِأنَّ الجِنَّ قالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نَشْهَدُ الصَلاةَ مَعَكَ عَلى نَأْيِنا عنكَ؟ فَنَزَلَتِ الآيَةُ يُخاطِبُهم بِها عَلى مَعْنى: أنَّ عِبادَتَكم حَيْثُ كُنْتُمْ مَقْبُولَةٌ، وقالَ الخَلِيلُ بْنُ أحْمَدَ: مَعْنى الآيَةِ: ولِأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا -أيْ لِهَذا السَبَبِ-، وكَذَلِكَ عِنْدَهُ "لِإيلافِ قُرَيْشٍ... فَلْيَعْبُدُوا"، وكَذَلِكَ عِنْدَهُ ﴿إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكم أُمَّةً واحِدَةً﴾ [الأنبياء: ٩٢] والمَساجِدُ المَخْصُوصَةُ بَيِّنَةُ التَمَكُّنِ في كَوْنِها لِلَّهِ تَعالى فَيَصِحُّ أنَّ تُفْرَدَ لِلصَّلاةِ والدُعاءِ وقِراءَةِ العِلْمِ وكُلِّ ما هو خالِصٌ لِلَّهِ تَعالى، وألّا يَتَحَدَّثَ فِيها في أُمُورِ الدُنْيا، ولا يَتَّجِرُ، وتُتَّخَذُ طُرُقًا، ولا يُجْعَلُ فِيها لِغَيْرِ اللهِ نَصِيبٌ، ولَقَدْ قَعَدْتُ لِلْقَضاءِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في المَسْجِدِ الجامِعِ بِالمِرْيَةِ ثُمَّ رَأيْتُ فِيهِ مِن سُوءِ خُلُقِ المُتَخاصِمِينَ وصِياحِهِمْ وأيْمانِهِمْ وفُجُورِ الخِصامِ وغائِلَتِهِ ودُخُولِ النِسْوانِ ما رَأيْتُ تَنْزِيهَ البَيْتِ عنهُ فَقَطَعَتِ القُعُودُ لِلْأحْكامِ فِيهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خِطابًا مِنَ اللهِ تَعالى ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إخْبارًا عَنِ الجِنِّ، وقَرَأ بَعْضُ القُرّاءِ -عَلى ما تَقَدَّمَ-: "وَأنَّهُ" بِفَتْحِ الألِفِ، وهَذا عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: "أنَّهُ اسْتَمَعَ"، و"العَبْدُ" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، قالَ قَوْمٌ: هو نُوحٌ والضَمِيرُ في "كادُوا" لِلْجِنِّ، والمَعْنى أنَّهم كادُوا يَتَقَصَّفُونَ عَلَيْهِ لِاسْتِماعِ القُرْآنِ، وقَرَأ آخَرُونَ: "وَإنَّهُ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، و"العَبْدُ" مُحَمَّدٌ ﷺ، والضَمِيرُ في "كادُوا" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلْجِنِّ عَلى المَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِكُفّارِ قَوْمِهِ ولِلْعَرَبِ في اجْتِماعِهِمْ عَلى رَدِّ أمْرِهِ، ولا يَتَّجِهُ أنْ يَكُونَ "العَبْدُ" نُوحًا عَلَيْهِ السَلامُ إلّا عَلى تَحامُلٍ في تَأْوِيلِ نَسَّقَ الآيَةُ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنى الآيَةِ إنَّها قَوْلُ الجِنِّ لِقَوْمِهِمْ يَحْكُونَ، و"العَبْد" مُحَمَّد ﷺ، والضَمِيرُ في "كادُوا" لِأصْحابِهِ الَّذِينَ يُطَوِّعُونَ لَهُ (p-٤٣٦)وَيَقْتَدُونَ بِهِ في الصَلاةِ، فَهم عَلَيْهِ لِبَدُ، واللُبَدُ الجَماعاتُ، شُبِّهَتْ بِالشَيْءِ المُتَلَبِّدِ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، ومِنهُ قَوْلُ عَبْدِ بْنِ مَنافِ بْنِ رُبْعٍ: ؎ صابُوا بِسِتَّةِ أبْياتٍ وأرْبَعَةٍ.... حَتّى كَأنَّ عَلَيْهِمْ جانِيًا لَبَدا يُرِيدُ الجَرادَ، سَمّاهُ جانِيًا لِأنَّهُ يَجْنِي كُلَّ الأشْياءِ بِأكْمَلِهِ، [وَيُرْوى جابِيًا بِالباءِ لِأنَّهُ يَجْبِي الأشْياءَ بِأكْلِهِ]. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وجُمْهُورُ السَبْعَةِ: "لَبَدا" بِكَسْرِ اللامِ، جَمْعُ لُبْدَةَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أعْوانًا، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ -بِخِلافٍ عنهُ- ومُجاهِدٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "لَبَدا" بِضَمِّ اللامِ وتَخْفِيفِ الباءِ المَفْتُوحَةِ، وهو جَمْعٌ أيْضًا، ورُوِيَ عَنِ الجَحْدَرِيِّ "لُبُدًا" بِضَمِّ اللامِ والباءِ، وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: "لِبَّدا" بِكَسْرِ اللامِ وشَدِّ الباءِ المَفْتُوحَةِ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ بِخِلافٍ عنهُما-: "لُبَّدًا" بِضَمِّ اللامِ وشَدِّ الباءِ، وهو جَمْعُ "لابُدَ"، فَإنَّ قَدَّرْنا الضَمِيرَ لِلْجِنِّ فَبِتَقَصُّفِهِمْ عَلَيْهِ لِاسْتِماعِ الذِكْرِ، وهَذا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبّاسٍ والضَحّاكِ، وإنْ قَدَّرْناهُ لِلْكَفّارِ فَبِتَمالُئِهِمْ عَلَيْهِ وإقْبالِهِمْ عَلى أمْرِهِ بِالتَكْذِيبِ والرَدِّ، وهَذا تَأْوِيلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ. و"يَدْعُوهُ" مَعْناهُ: يَعْبُدُهُ. وقَرَأ عَلِيُّ بِنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "قالَ إنَّما أدْعُوا رَبِّي"، وهي قِراءَةُ جُمْهُورِ السَبْعَةِ، هو جَمْعٌ لا بُدَّ فَإنَّ قَدَّرْنا الضَمِيرَ لِلْجِنِّ فَتَقْصِفُهم عَلَيْهِ لِاسْتِماعِ الذِكْرِ، وهَذا تَأْوِيلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ وأدْعُوا مَعْناهُ أعْبُدُهُ، وقَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ، وهَذِهِ قِراءَةٌ تُؤَيِّدُ أنَّ "العَبْدَ" هو نُوحٌ عَلَيْهِ السَلامُ، وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، وأيُّوبُ، وأبُو عَمْرٍو -بِخِلافٍ عنهُ-: "قالَ إنَّما أدْعُوا"، وهَذِهِ تُؤَيِّدُ أنَّهُ مُحَمَّدٌ ﷺ، وإنْ كانَ الِاحْتِمالُ باقِيًا مِن كِلَيْهِما، واخْتَلَفَ القُرّاءُ في فَتْحِ الياءِ مِن "رَبِّي" وفي سُكُونِها. ثُمَّ أمَرَ تَعالى مُحَمَّدًا ﷺ بِالتَبَرِّي مِنَ القُدْرَةِ، وأنَّهُ لا يَمْلِكُ لِأحَدٍ ضَرًّا ولا رَشَدًا، بَلِ الأمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ تَعالى وقَرَأ الأعْرَجُ "رُشُدا" بِضَمِّ الراءِ والشِينِ، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: (p-٤٣٧)"لا أمْلِكُ لَكم غَيًّا ولا رُشْدًا"، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن دُونِهِ﴾ أيْ: مِن عِنْدِ سِواهُ. و"المُلْتَحَدُ": المَلْجَأُ الَّذِي يُمالُ إلَيْهِ ويَرْكَنُ، ومِنهُ الإلْحادُ والمَيْلُ، ومِنهُ اللَحْدُ الَّذِي يُمالُ بِهِ إلى أحَدِ شِقَّيِ القَبْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب