الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا ونَهارًا﴾ ﴿فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي إلا فِرارًا﴾ ﴿وَإنِّي كُلَّما دَعَوْتُهم لِتَغْفِرَ لَهم جَعَلُوا أصابِعَهم في آذانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيابَهم وأصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا﴾ ﴿ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهم جِهارًا﴾ ﴿ثُمَّ (p-٤١٧)إنِّي أعْلَنْتُ لَهم وأسْرَرْتُ لَهم إسْرارًا﴾ ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ ﴿يُرْسِلِ السَماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ هَذِهِ المَقالَةُ قالَها نُوحٌ عَلَيْهِ السَلامُ بَعْدَ أنْ طالَ عُمْرُهُ وتَحَقَّقَ اليَأْسُ عن قَوْمِهِ، وقَوْلُهُ: "لَيْلًا ونَهارًا" عِبارَةٌ عَنِ اسْتِمْرارِ دُعائِهِ وأنَّهُ لِمَ يَنِ فِيهِ قَطُّ. ويُرْوى عن قَتادَةَ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَلامُ كانَ يَجِيئُهُ الرَجُلُ مِن قَوْمِهِ بِابْنِهِ فَيَقُولُ لِابْنِهِ: يا بُنَيَّ احْذَرْ هَذا الرَجُلَ فَإنَّ أبِي حَذَّرَنِي إيّاهُ ويَقُولُ لَهُ إنَّهُ مَجْنُونٌ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "دُعائِي" بِالهَمْزِ وفَتَحِ الياءِ، وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِسُكُونِ الياءِ دُونَ هَمْزٍ، ورَوى شِبْلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِنَصْبِ الياءِ دُونَ هَمْزٍ مِثْلَ "هُدايَ"، وقَرَأ عاصِمٌ أيْضًا ويَعْقُوبُ، وسَلامٌ بِهَمْزٍ وياءٍ ساكِنَةٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنِّي كُلَّما دَعَوْتُهم لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ مَعْناهُ: لِيُؤْمِنُوا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ الغُفْرانِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿جَعَلُوا أصابِعَهم في آذانِهِمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حَقِيقَةً ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عن إعْراضِهِمْ وشَدَّةَ رَفْضِهِمْ لِأقْوالِهِ ودُعائِهِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ﴾، ومَعْناهُ: جَعَلُوها أغْطِيَةً عَلى رُءُوسِهِمْ. و"الإصْرارُ": الثُبُوتُ عَلى مُعْتَقَدٍ ما، وأكْثَرُ اسْتِعْمالِهِ في الذُنُوبِ. ثُمَّ كَرَّرَ ﷺ صِفَةَ دُعائِهِ لَهم بَيانًا وتَوْكِيدًا، و"جِهارًا" يُرِيدُ عَلانِيَةً في المَحافِلِ، و"الإسْرارُ" ما كانَ مِن دُعائِهِ الأفْرادُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم عَلى انْفِرادٍ، وهَذا غايَةُ الجِدِّ. وقَوْلُهُ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾... ﴿يُرْسِلِ السَماءَ﴾ يَقْتَضِي أنَّ الِاسْتِغْفارَ سَبَبٌ لِنُزُولِ المَطَرِ في كُلِّ أُمَّةٍ، ورُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ اسْتَسْقى بِالناسِ فَلَمْ يَزِدْ عَلى أنِ اسْتَغْفَرَ ساعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقالَ لَهُ قَوْمٌ: ما رَأيْناكَ اسْتَسْقَيْتَ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقالَ: واللهِ لَقَدِ اسْتَنْزَلْتُ المَطَرَ بِمَجادِيحِ السَماءِ، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وشَكا رَجُلٌ إلى الحَسَنِ الجَدْبَ فَقالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ، وشَكا إلَيْهِ آخَرُ الفَقْرَ فَقالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ سُبْحانَهُ، وقالَ لَهُ آخَرُ: ادْعُ اللهَ تَعالى أنْ يَرْزُقَنِي ولَدًا، فَقالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ تَعالى، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ فَنَزَعَ بِهَذِهِ الآيَةِ. والِاسْتِغْفارُ الَّذِي أحالَ عَلَيْهِ الحَسَنُ لَيْسَ هو (p-٤١٨)عِنْدِي لَفْظُ الِاسْتِغْفارِ فَقَطْ، بَلِ الإخْلاصُ والصِدْقُ في الأقْوالِ والأعْمالِ، وكَذَلِكَ كانَ اسْتِغْفارُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ. ورُوِيَ أنَّ قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ كانَ قَدْ أصابَتْهم قُحُوطٌ وأزْمَةٌ فَلِذَلِكَ بَدَأهم في وعْدِهِ بِأمْرِ المَطَرِ ثُمَّ ثَنى بِالأمْوالِ والبَنِينِ، قالَ قَتادَةُ: لِأنَّهم كانُوا أهْلَ حُبٍّ لِلدُّنْيا وتَعْظِيمٍ لِأمْرِها، فاسْتَدْعاهُمُ اللهُ تَعالى إلى الآخِرَةِ مِنَ الطَرِيقِ الَّتِي يُحِبُّونَها. و"مِدْرارًا" مِفْعالًا مِن "الدَرِّ" كَمِذْكارٍ ومِيقاتٍ، وهَذا البِناءُ لا تَلْحَقُهُ هاءُ التَأْنِيثِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب