الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿والَّذِينَ هم لأماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ في جَنّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ ﴿فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾ ﴿عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِمالِ عِزِينَ﴾ ﴿أيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنهم أنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ ﴿كَلا إنّا خَلَقْناهم مِمّا يَعْلَمُونَ﴾
"الأماناتُ" جَمْعُ أمانَةٍ، وجَمَعَها لِأنَّها تَكُونُ مُتَنَوِّعَةً مِن حَيْثُ هي في الأمْوالِ والأسْرارِ، وفِيما بَيْنَ العَبْدِ ورَبِّهِ فِيما أمَرَهُ ونَهاهُ عنهُ، قالَ الحَسَنُ: الدِينُ كُلُّهُ أمانَةٌ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ مِنَ السَبْعَةِ: "لِأمانَتِهِمْ" بِالإفْرادِ، و"العَهْدُ": كُلُّ ما تَقَلَّدَهُ الإنْسانُ مِن قَوْلٍ أو فِعْلٍ أو مَوَدَّةٍ، إذا كانَتْ هَذِهِ الأشْياءُ عَلى طَرِيقِ البَرِّ فَهو عَهْدٌ يَنْبَغِي رَعْيُهُ وحِفْظُهُ، وقَدْ قالَ النَبِيُّ ﷺ: « "حَسَنُ العَهْدِ مِنَ الإيمانِ".» و"راعُونَ" جَمْعُ راعٍ أيْ: حافِظٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هم بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ﴾ مَعْناهُ -فِي قَوْلِ جَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ- أنَّهم يَحْفَظُونَ ما يَشْهَدُونَ فِيهِ ويَتَيَقَّنُونَهُ ويَقُومُونَ بِمَعانِيهِ حَتّى لا يَكُونَ لَهم فِيهِ تَقْصِيرٌ، وهَذا هو وصْفٌ مِن تَمْثِيلِ قَوْلِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ « "عَلى مِثْلِ الشَمْسِ فاشْهَدْ"،» وقالَ آخَرُونَ: مَعْناهُ: الَّذِينَ إذا كانَتْ عِنْدَهم شَهادَةٌ ورَأوا حَقًّا يَدْرُسُ، أو حُرْمَةً لِلَّهِ تَعالى تُنْتَهَكُ قامُوا بِشَهادَتِهِمْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: شَهادَتُهم في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللهَ تَعالى وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "خَيْرُ الشُهَداءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهادَتِهِ قَبْلَ أنْ يَسْألَها".» واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى هَذا الحَدِيثِ بِحَسَبِ المَعْنَيَيْنِ اللَذَيْنِ ذَكَرْنا في الآيَةِ: إحْداهُما أنْ يَكُونَ يَحْفَظُهُما مُتْقَنَةٌ فَيَأْتِي بِها ولا يَحْتاجُ أنْ يُسْتَفْهَمَ (p-٤١١)عن شَيْءٍ مِنها ولا أنْ يُعارِضَ، والثانِي إذا ما رَأى حَقًّا يَعْمَلُ بِخِلافِهِ وعِنْدَهُ في إحْياءِ الحَقِّ شَهادَةٌ، ورُوِيَ أيْضًا عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "سَيَأْتِي قَوْمٌ يُخَوَّنُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، ويَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، ويَظْهَرُ فِيهِمُ السِمَنُ"،» واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى هَذا الحَدِيثِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: هم قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ يَتَعَرَّضُونَ ويَحْرِصُونَ عَلى وضْعِ أسْمائِهِمْ في وثائِقِ الناسِ، ويَنْصِبُونَ لِذَلِكَ الحَبائِلَ مِن زِيٍّ وهَيْئَةٍ، وهم غَيْرُ عُدُولٍ في أنْفُسِهِمْ، فَيَغُرُّونَ بِذَلِكَ ويَضُرُّونَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَهَذا في ابْتِداءِ الشَهادَةِ لا في أدائِها، ويَجِيءُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "وَلا يُسْتَشْهَدُونَ"،» أيْ: وهم غَيْرُ أهْلِ لِذَلِكَ.
وقالَ آخَرُونَ مِنَ العُلَماءِ: هم شُهُودُ الزُورِ، يُؤَدُّونَها والمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُشْهِدْهم ولا الآخَرُ.
وقَرَأ حَفْصٌ عن عاصِمٍ: "بِشَهاداتِهِمْ" عَلى الجَمْعِ، وهي قِراءَةُ عَبْدِ الرَحْمَنِ، والباقُونَ "بِشَهادَتِهِمْ" عَلى الإفْرادِ الَّذِي هو اسْمُ الجِنْسِ. و"المُحافَظَةُ عَلى الصَلاةِ" إقامَتُها في أوقاتِها بِشُرُوطِ صِحَّتِها وكَمالِها، وقالَ ابنُ جُرَيْجٍ: يَدْخُلُ في هَذِهِ الآيَةِ التَطَوُّعُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾ الآيَةُ. نَزَلَتْ لِأنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ أحْيانًا ويَقْرَأُ القُرْآنَ، فَكانَ كَثِيرٌ مِنَ الكُفّارِ يَقُومُونَ مِن مَجالِسِهِمْ مُسْرِعِينَ إلَيْهِ يَتَسَمَّعُونَ قِراءَتَهُ، ويَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: شاعِرٌ وكاهِنٌ ومُفْتَرٍ وغَيْرُ ذَلِكَ. و"قِبَلَكَ" مَعْناهُ: فِيما يَلِيكَ، و"المُهْطِعُ" الَّذِي يَمْشِي مُسْرِعًا إلى شيءٍ قَدْ أقْبَلَ عَلَيْهِ بِبَصَرِهِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: لا يَطْرِفُ.
(p-٤١٢)وَ"عِزِينَ" جَمْعُ عِزَّةٍ، قالَ بَعْضُ النُحاةِ: أصْلُها عِزْوَةٌ، وقالَ آخَرُونَ مِنهُمْ، أصْلُها عِزْهَةٌ وجُمِعَتْ بِالواوِ والنُونِ عِوَضًا مِمّا انْحَذَفَ مِنها نَحْوُ سَنَةٍ وسُنُونَ، ومَعْنى العِزَّةِ: الجَمْعُ اليَسِيرُ، فَكَأنَّهم قالُوا: ثَلاثَةً ثَلاثَةً، وأرْبَعَةً أرْبَعَةً، ومِنهُ قَوْلُ الراعِي:
؎ أخَلِيفَةُ الرَحْمَنِ إنَّ عَشِيرَتِي ∗∗∗ أمْسى سُراتُهم إلَيْكَ عِزِينا
وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «خَرَجَ النَبِيُّ ﷺ عَلى أصْحابِهِ وهم حِلَقٌ مُتَفَرِّقُونَ فَقالَ: "ما لِي أراكم عِزِينَ"؟» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنهم أنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ نَزَلَتْ لِأنَّ بَعْضَ الكُفّارِ قالَتْ: إنْ كانَتْ ثَمَّ آخِرَةً وجَنَّةً فَنَحْنُ أهْلُها وفِيها؛ لِأنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْنا في الدُنْيا بِالمالِ والبَنِينَ وغَيْرِ ذَلِكَ إلّا لِرِضاهُ عَنّا. وقَرَأ السَبْعَةُ، والحَسَنُ، والجُمْهُورُ: "يَدْخُلُ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الخاءِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ المُفَضَّلُ عن عاصِمٍ، وابْنُ يَعْمُرَ، وأبُو رَجاءٍ وطَلْحَةُ: "يَدْخُلُ" بِفَتْحِ وضَمِّ الخاءِ عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، وقَوْلُهُ تَعالى: "كَلّا" رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ وطَمَعِهِمْ، أيْ: لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عن خَلْقِهِمْ مِن نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ، فَأحالَ في العِبارَةِ عنها إلى عِلْمِ الناسِ، أيْ: مِن خُلِقَ مِن ذَلِكَ فَلَيْسَ بِنَفْسِ خَلْقِهِ يُعْطى الجَنَّةَ، بَلْ بِالأعْمالِ الصالِحَةِ إنْ كانَتْ، وقالَ قَتادَةُ في تَفْسِيرِها: إنَّما خُلِقْتَ مِن قَذَرٍ يا ابْنَ آدَمَ فاتَّقِ اللهَ تَعالى، وقالَ أنَسٌ: كانَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ إذا خَطَبَنا ذَكَرَ مَناتِنَ ابْنِ آدَمَ، ومُرُورَهُ في مَجْرى البَوْلِ مَرَّتَيْنِ، وكَوْنَهُ نُطْفَةً في الرَحِمِ ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إلى أنْ يَخْرُجَ فَيَتَلَوَّثَ في نَجَساتِهِ طِفْلًا، فَلا يُقْلِعُ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ حَتّى يَقْذِرَ أحَدُنا نَفْسَهُ.
{"ayahs_start":32,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰعُونَ","وَٱلَّذِینَ هُم بِشَهَـٰدَ ٰتِهِمۡ قَاۤىِٕمُونَ","وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی جَنَّـٰتࣲ مُّكۡرَمُونَ","فَمَالِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ قِبَلَكَ مُهۡطِعِینَ","عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِینَ","أَیَطۡمَعُ كُلُّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ أَن یُدۡخَلَ جَنَّةَ نَعِیمࣲ","كَلَّاۤۖ إِنَّا خَلَقۡنَـٰهُم مِّمَّا یَعۡلَمُونَ"],"ayah":"فَمَالِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ قِبَلَكَ مُهۡطِعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق