الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ ﴿وَمَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ﴾ (p-٥١٥)"والوَزْنُ": مَصْدَرُ "وَزَنَ؛ يَزِنُ"؛ ورَفْعُهُ بِالِابْتِداءِ؛ و"اَلْحَقُّ"؛ خَبَرُهُ؛ و"يَوْمَئِذٍ"؛ ظَرْفٌ مُنْتَصِبٌ بِـ "اَلْوَزْنُ"؛ ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ "يَوْمَئِذٍ"؛ خَبَرَ الِابْتِداءِ؛ و"اَلْحَقُّ"؛ نَعْتٌ لِـ "اَلْوَزْنُ"؛ والتَقْدِيرُ: "اَلْوَزْنُ الحَقُّ ثابِتٌ؛ أو ظاهِرٌ يَوْمَئِذٍ"؛ و"يَوْمَئِذٍ"؛ إشارَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ والفَصْلِ بَيْنَ الخَلائِقِ. واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى الوَزْنِ والمَوازِينِ؛ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - أرادَ أنْ يُعْلِمَ عِبادَهُ أنَّ الحِسابَ والنَظَرَ؛ يَوْمَ القِيامَةِ؛ هو في غايَةِ التَحْرِيرِ؛ ونِهايَةِ العَدْلِ؛ فَمَثَّلَ لَهم في ذَلِكَ بِالوَزْنِ؛ والمِيزانِ؛ إذْ لا يَعْرِفُ البَشَرُ أمْرًا أكْثَرَ تَحْرِيرًا مِنهُ؛ فاسْتُعِيرَ لِلْعَدْلِ؛ وتَحْرِيرِ النَظَرِ؛ لَفْظَةُ "اَلْوَزْنُ"؛ و"اَلْمِيزانُ"؛ كَما اسْتَعارَ ذَلِكَ أبُو طالِبٍ في قَوْلِهِ: ؎ بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَخِسُّ شَعِيرَةً ∗∗∗ لَهُ حاكِمٌ مِن نَفْسِهِ غَيْرُ عائِلِ ورُوِيَ هَذا القَوْلُ عن مُجاهِدٍ ؛ والضَحّاكِ ؛ وغَيْرِهِما؛ وكَذَلِكَ اسْتُعِيرَ عَلى قَوْلِهِمُ الثِقْلُ؛ والخِفَّةُ؛ لِكَثْرَةِ الحَسَناتِ وقِلَّتِها. وقالَ جُمْهُورُ الأُمَّةِ: إنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - أرادَ أنْ يَعْرِضَ لِعِبادِهِ يَوْمَ القِيامَةِ تَحْرِيرَ النَظَرِ؛ وغايَةَ العَدْلِ؛ بِأمْرٍ قَدْ عَرَفُوهُ في الدُنْيا؛ وعَهِدَتْهُ أفْهامُهُمْ؛ فَمِيزانُ القِيامَةِ لَهُ عَمُودٌ وكِفَّتانِ؛ عَلى هَيْئَةِ مَوازِينِ الدُنْيا؛ قالَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: "صاحِبُ المَوازِينِ يَوْمَ القِيامَةِ: جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَلامُ"؛ وقالُوا: هَذا الَّذِي اقْتَضاهُ القُرْآنُ؛ ولَمْ يَرُدَّهُ نَظَرٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا القَوْلُ أصَحُّ مِنَ الأوَّلِ مِن جِهاتٍ؛ أوَّلُها: أنَّ ظَواهِرَ كِتابِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ - تَقْتَضِيهِ؛ وحَدِيثَ الرَسُولِ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - يَنْطِقُ بِهِ؛ مِن ذَلِكَ «قَوْلُهُ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِبَعْضِ الصَحابَةِ - وقَدْ قالَ لَهُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أيْنَ أجِدُكَ في القِيامَةِ؟ - فَقالَ: "اُطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ؛ فَإنْ لَمْ تَجِدْنِي فَعِنْدَ المِيزانِ"؛» ولَوْ لَمْ يَكُنِ المِيزانُ مَرْئِيًّا مَحْسُوسًا لَما (p-٥١٦)أحالَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلى الطَلَبِ عِنْدَهُ؛ وجِهَةٍ أُخْرى؛ أنَّ النَظَرَ في المِيزانِ؛ والوَزْنِ؛ والثِقْلِ؛ والخِفَّةِ؛ المُقْتَرِناتِ بِالحِسابِ؛ لا يَفْسَدُ شَيْءٌ مِنهُ؛ ولا تَخْتَلُّ صِحَّتُهُ؛ وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ فَلِمَ نَخْرُجْ مِن حَقِيقَةِ اللَفْظِ إلى مَجازِهِ؛ دُونَ عِلَّةٍ؟ وجِهَةٍ ثالِثَةٍ؛ وهي أنَّ القَوْلَ في المِيزانِ هو مِن عَقائِدِ الشَرْعِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ إلّا سَمْعًا؛ وإنْ فَتَحْنا فِيهِ بابَ المَجازِ غَمَرَتْنا أقْوالُ المُلْحِدَةِ؛ والزَنادِقَةِ؛ في أنَّ المِيزانَ؛ والصِراطَ؛ والجَنَّةَ؛ والنارَ؛ والحَشْرَ؛ ونَحْوَ ذَلِكَ؛ إنَّما هي ألْفاظٌ يُرادُ بِها غَيْرُ الظاهِرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وأمّا الثِقْلُ؛ والخِفَّةُ فَإنَّ الآثارَ تَظاهَرَتْ بِأنَّ صَحائِفَ الحَسَناتِ والسَيِّئاتِ تُوضَعُ في كِفَّتَيِ المِيزانِ؛ فَيُحْدِثُ اللهُ تَعالى في الجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُ ثِقْلًا؛ وخِفَّةً؛ عَلى نَحْوِ إحْداثِهِ ذَلِكَ في جِسْمِ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في وقْتِ نُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ؛ فَفي الصَحِيحِ مِن حَدِيثِ «زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ قالَ: "كُنْتُ أكْتُبُ حَتّى نَزَلَتْ ﴿غَيْرُ أُولِي الضَرَرِ﴾ [النساء: ٩٥] ؛ وفَخِذُ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلى فَخِذِي حَتّى كادَتْ أنْ تَرُضَّ فَخِذِي"؛» وفي الحَدِيثِ «أنَّهُ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - كانَ إذا أُوحِيَ إلَيْهِ وهو عَلى ناقَتِهِ بَرَكَتْ بِهِ؛» عَجْزًا عن حَمْلِهِ؛ لِلثِّقْلِ الحادِثِ فِيهِ؛ ولا بُدَّ لَنا أنْ نَعْلَمَ أنَّ الثِقْلَ الحادِثَ مَعَ الحَسَناتِ إنَّما يَتَعَلَّقُ بِجِسْمٍ؛ إذِ العَرَضُ لا يَقُومُ بِعَرَضٍ؛ فَجائِزٌ أنْ يُحْدِثَ الثِقْلَ في الصَحائِفِ؛ وهو أقْرَبُها إلى الظَنِّ؛ وجائِزٌ أنْ يُحْدِثَ في ذَلِكَ؛ مِنَ الأجْسامِ المُجاوِرَةِ لِتِلْكَ الحالِ؛ وإلى حُدُوثِهِ في الصَحائِفِ ذَهَبَ أبُو المَعالِي؛ ورُوِيَتْ في خَبَرِ المِيزانِ آثارٌ عن صَحابَةٍ وتابِعِينَ؛ في هَيْئَةِ طُولِهِ؛ وأحْوالِهِ؛ لَمْ تَصِحَّ بِالإسْنادِ؛ فَلَمْ نَرَ لِلْإطالَةِ بِها وجْهًا؛ وقالَ الحَسَنُ - فِيما رُوِيَ عنهُ -: بَلَغَنِي أنَّ لِكُلِّ أحَدٍ يَوْمَ القِيامَةِ مِيزانًا عَلى حِدَةٍ. (p-٥١٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ؛ والناسُ عَلى خِلافِهِ؛ وإنَّما لِكُلِّ أحَدٍ وزْنٌ يَخْتَصُّ بِهِ؛ والمِيزانُ واحِدٌ؛ ورُوِيَ عن مُجاهِدٍ ؛ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ ؛ أنَّ المَوازِينَ: اَلْحَسَناتُ نَفْسُها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وجُمِعَ لَفْظُ "اَلْمَوازِينَ"؛ إذْ في المِيزانِ مَوْزُوناتٌ كَثِيرَةٌ؛ فَكَأنَّهُ أرادَ التَنْبِيهَ عَلَيْها بِجَمْعِهِ لَفْظَ "اَلْمِيزانُ". و"اَلْمُفْلِحُونَ"؛ في اللُغَةِ: اَلْمُدْرِكُونَ لِبُغْيَتِهِمْ؛ الناجِحُونَ في طَلَبِهِمْ؛ ومِنهُ قَوْلُ عُبَيْدٍ: ؎ أفْلِحْ بِما شِئْتَ فَقَدْ يُبْلَغُ بِالضـْ ∗∗∗ ∗∗∗ ـضَعْفِ وقَدْ يُخَدَّعُ الأرِيبُ فَأمّا قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ................. ∗∗∗ ∗∗∗ والمُسْيُ والصُبْحُ لا فَلاحَ مَعَهْ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ بِمَعْنى "اَلْبَقاءُ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والبَقاءُ: بُلُوغُ بُغْيَةٍ؛ فالمَعْنَيانِ مُتَقارِبانِ؛ ووَزْنُ اللهِ تَعالى أعْمالَ العِبادِ - مَعَ عِلْمِهِ بِدَقائِقِ الأشْياءِ - وجَلائِلِها - نَظِيرُ كَتْبِهِ أعْمالَهم في صَحائِفِهِمْ؛ واسْتِنْساخِهِ ذَلِكَ؛ ونَظِيرُ اسْتِنْطاقِهِ تَعالى جَوارِحَهم بِالشَهادَةِ عَلَيْهِمْ؛ إقامَةً لِلْحُجَّةِ؛ وإيضاحًا؛ فَقَدْ تَقَرَّرَ في الشَرْعِ أنَّ كَلِمَةَ التَوْحِيدِ تُرَجِّحُ مِيزانَ مَن وُزِنَتْ في أعْمالِهِ؛ ولا بُدَّ؛ فَإنْ قالَ قائِلٌ: كَيْفَ تَثْقُلُ مَوازِينُ العُصاةِ (p-٥١٨)مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالتَوْحِيدِ؛ ويَصِحُّ لَهم حُكْمُ الفَلاحِ؛ ثُمَّ تَدْخُلُ طائِفَةٌ مِنهُمُ النارَ؛ وذَلِكَ شَقاءٌ؛ لا مَحالَةَ؟ فَقالَتْ طائِفَةٌ: إنَّهُ تُوزَنُ أعْمالُهم دُونَ التَوْحِيدِ؛ فَتَخِفُّ الحَسَناتُ؛ فَيَدْخُلُونَ النارَ؛ ثُمَّ عِنْدَ إخْراجِهِمْ يُوزَنُ التَوْحِيدُ؛ فَتَثْقُلُ الحَسَناتُ؛ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ؛ وأيْضًا فَمَعْرِفَةُ العاصِي أنَّهُ غَيْرُ مُخَلَّدٍ؛ فَلاحٌ؛ وإنْ تَقَدَّمَهُ شَقاءٌ؛ عَلى جِهَةِ التَأْدِيبِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَمَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ المَعْنى: "مَن خَفَّتْ كِفَّةُ حَسَناتِهِ؛ فَشالَتْ"؛ و﴿خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ ؛ أيْ بِالهَلاكِ؛ والخُلُودِ في النارِ؛ وتِلْكَ غايَةُ الخَسارَةِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى "بِما كانُوا"؛ أيْ جَزاءً بِذَلِكَ؛ كَما تَقُولُ: "أكْرَمْتُكَ بِما أكْرَمْتَنِي"؛ و"ما"؛ في هَذا المَوْضِعِ مَصْدَرِيَّةٌ؛ و"اَلْآياتُ"؛ هُنا: اَلْبَراهِينُ؛ والأوامِرُ؛ والنَواهِي؛ و"يَظْلِمُونَ"؛ أيْ يَضَعُونَها في غَيْرِ مَواضِعِها؛ بِالكُفْرِ؛ والتَكْذِيبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب