الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿قالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ولَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أُبَلِّغُكم رِسالاتِ رَبِّي وأنْصَحُ لَكم وأعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ اَللّامُ لامُ القَسَمِ؛ قالَ الطَبَرِيُّ: أقْسَمَ اللهُ تَعالى أنَّهُ أرْسَلَ نُوحًا - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: سُمِّيَ "نُوحًا"؛ لِأنَّهُ كانَ يَنُوحُ عَلى نَفْسِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا ضَعِيفٌ. قالَ سِيبَوَيْهِ: "نُوحٌ"؛ و"لُوطٌ"؛ و"هُودٌ"؛ أسْماءٌ أعْجَمِيَّةٌ؛ إلّا أنَّها حَقِيقَةٌ؛ فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ؛ وهَذِهِ نِذارَةٌ مِن نُوحٍ - عَلَيْهِ السَلامُ - لِقَوْمِهِ؛ دَعاهم إلى عِبادَةِ اللهِ تَعالى وحْدَهُ؛ ورَفْضِ آلِهَتِهِمُ المُسَمّاةِ: "وَدًّا"؛ و"سُواعًا"؛ و"يَغُوثَ"؛ و"يَعُوقَ"؛ وغَيْرَها مِمّا لَمْ يُشْتَهَرْ. وقَرَأ الكِسائِيُّ وحْدَهُ: "غَيْرِهِ"؛ بِالكَسْرِ مِنَ الراءِ؛ عَلى النَعْتِ لِـ "إلَهٍ"؛ وهي قِراءَةُ يَحْيى بْنِ وثّابٍ ؛ والأعْمَشِ ؛ وأبِي جَعْفَرٍ ؛ وقَرَأ الباقُونَ: "غَيْرُهُ"؛ بِالرَفْعِ؛ وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرِ اللهِ"؛ خَفْضًا؛ وقَرَأ الباقُونَ: "غَيْرُ اللهِ"؛ رَفْعًا؛ والرَفْعُ في قِراءَةِ الجَماعَةِ هُنا عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ: "مِن إلَهٍ"؛ لِأنَّ مَوْضِعَ قَوْلِهِ: "مِن إلَهٍ"؛ رَفْعٌ؛ وهو الَّذِي رَجَّحَ الفارِسِيُّ ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَعْتًا عَلى المَوْضِعِ؛ لِأنَّ التَقْرِيرَ: "ما لَكم إلَهٌ غَيْرُهُ"؛ أو يُقَدَّرَ "غَيْرُ"؛ بِـ "إلّا"؛ فَيُعْرَبَ بِإعْرابِ ما يَقَعُ بَعْدَ "إلّا"؛ وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: "غَيْرَهُ"؛ بِنَصْبِ الراءِ؛ عَلى الِاسْتِثْناءِ؛ قالَ أبُو حاتِمٍ: وذَلِكَ ضَعِيفٌ؛ مِن أجْلِ النَفْيِ المُتَقَدِّمِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى "عَذابَ"؛ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ عَذابَ الدُنْيا؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ عَذابَ الآخِرَةِ. (p-٥٩١)وَ"اَلْمَلَأُ": اَلْجَماعَةُ الشَرِيفَةُ؛ قالَ الطَبَرِيُّ: لا امْرَأةَ فِيهِمْ؛ وحَكاهُ النَقّاشُ عن ثَعْلَبٍ فِي: "اَلْمَلَأُ"؛ و"اَلرَّهْطُ"؛ و"اَلنَّفَرُ"؛ و"اَلْقَوْمُ"؛ وقِيلَ: هم مَأْخُوذُونَ مِن أنَّهم يَمْلَؤُونَ النَفْسَ والعَيْنَ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن أنَّهم إذا تَمالَؤُوا عَلى أمْرٍ تَمَّ؛ «وَقالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ بْنِ وقْشٍ الأنْصارِيُّ عِنْدَ قُفُولِ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِن غَزْوَةِ بَدْرٍ: "إنَّما قَتَلْنا عَجائِزَ صُلْعًا"؛ فَقالَ لَهُ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "أُولَئِكَ المَلَأُ مِن قُرَيْشٍ؛ لَوْ حَضَرْتَ أفْعالَهم لاحْتَقَرْتَ فِعْلَكَ"؛» و"اَلْمَلَأُ"؛ صِفَةٌ غالِبَةٌ؛ وجَمْعُهُ "أمْلاءٌ"؛ ولَيْسَ مِن بابِ "رَهْطٌ"؛ وإنْ كانا اسْمَيْنِ لِلْجَمْعِ؛ لِأنَّ "رَهْطٌ"؛ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ؛ و"مَلَأٌ"؛ يُوجَدُ مِن لَفْظِهِ "مالِئٌ"؛ قالَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى: "اَلْمالِئُ": اَلرَّجُلُ الجَلِيلُ؛ الَّذِي يَمْلَأُ العَيْنَ بِجَهْرَتِهِ؛ فَيَجِيءُ كَـ "عازِبٌ" و"خادِمٌ"؛ ورائِحٌ"؛ فَإنَّ أسْماءَ جُمُوعِها: "عَزَبٌ"؛ و"خَدَمٌ"؛ و"رَوَحٌ"؛ وإنْ كانَتِ اللَفْظَةُ مِن "تَمالَأ القَوْمُ عَلى كَذا"؛ فَهي مُفارِقَةٌ بابَ "رَهْطٌ"؛ ومِنهُ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: "ما قَتَلْتُ عُثْمانَ ؛ ولا مالَأتُ في دَمِهِ"؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -: "المَلَؤُ"؛ بِواوٍ؛ وكَذَلِكَ هي في مَصاحِفِ الشامِ؛ وقَوْلُهُمْ: ﴿ "لَنَراكَ"؛﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُجْعَلَ مِن رُؤْيَةِ البَصَرِ؛ ويُحْتَمَلُ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ؛ وهو الأظْهَرُ؛ و"فِي ضَلالٍ"؛ أيْ: في إتْلافٍ؛ وجَهالَةٍ بِما تَسْلُكُ. وقَوْلُهُ لَهم - جَوابًا عن هَذا -: ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ ؛ مُبالَغَةٌ في حُسْنِ الأدَبِ؛ والإعْراضِ عَنِ الجَفاءِ مِنهُمْ؛ وتَناوُلٌ رَفِيقٌ؛ وسَعَةُ صَدْرٍ؛ حَسْبَما يَقْتَضِيهِ خُلُقُ النُبُوَّةِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ﴾ ؛ تَعَرُّضٌ لِمَن يُرِيدُ النَظَرَ؛ والبَحْثَ؛ والتَأمُّلَ في المُعْجِزَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ونُقَدِّرُ - ولا بُدَّ - أنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَلامُ - وكُلَّ نَبِيٍّ مَبْعُوثٍ إلى الخَلْقِ كانَتْ لَهُ مُعْجِزَةٌ تَخْرِقُ العادَةَ؛ فَمِنهم مَن عَرَفْنا بِمُعْجِزَتِهِ؛ ومِنهم مَن لَمْ نَعْرِفْ. وقَرَأ السَبْعَةُ - سِوى أبِي عَمْرٍو -: ﴿ "أُبَلِّغُكُمْ"؛﴾ بِشَدِّ اللامِ؛ وفَتْحِ الباءِ؛ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِسُكُونِ الباءِ؛ وتَخْفِيفِ اللامِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿وَأعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ؛ وإنْ كانَ لَفْظًا عامًّا في كُلِّ ما عَلِمَهُ؛ فالمَقْصُودُ مِنهُ هُنا: اَلْمَعْلُوماتُ المَخُوفاتُ عَلَيْهِمْ؛ لا سِيَّما وهم لَمْ يَسْمَعُوا قَطُّ بِأُمَّةٍ عُذِّبَتْ؛ فاللَفْظُ مُضَمَّنٌ الوَعِيدَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب