الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ ﴿وَلا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا إنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ هَذا أمْرٌ بِالدُعاءِ؛ وتَعَبُّدٌ بِهِ؛ ثُمَّ قَرَنَ - عَزَّ وجَلَّ - بِالأمْرِ بِهِ صِفاتٍ تَحْسُنُ مَعَهُ. (p-٥٨١)وَقَوْلُهُ تَعالى ﴿ "تَضَرُّعًا"؛﴾ مَعْناهُ: بِخُشُوعٍ واسْتِكانَةٍ؛ و"اَلتَّضَرُّعُ": لَفْظَةٌ تَقْتَضِي الجَهْرَ؛ لِأنَّ التَضَرُّعَ إنَّما يَكُونُ بِإشاراتِ جَوارِحَ وهَيْئاتِ أعْضاءٍ تَقْتَرِنُ بِالطَلَبِ؛ و"وَخُفْيَةً"؛ يُرِيدُ: في النَفْسِ خاصَّةً؛ وقَدْ أثْنى اللهُ - عَزَّ وجَلَّ - عَلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ [مريم: ٣] ؛ ونَحْوُ هَذا قَوْلُ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "خَيْرُ الذِكْرِ الخَفِيُّ"؛» والشَرِيعَةُ مُقَرِّرَةٌ أنَّ السِرَّ فِيما لَمْ يُعْتَرَضْ مِن أعْمالِ البِرِّ أعْظَمُ أجْرًا مِنَ الجَهْرِ؛ وتَأوَّلَ بَعْضُ العُلَماءِ التَضَرُّعَ والخُفْيَةَ في مَعْنى السِرِّ جَمِيعًا؛ فَكَأنَّ التَضَرُّعَ فِعْلٌ لِلْقَلْبِ؛ ذَكَرَ هَذا المَعْنى الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ وقالَ: "لَقَدْ أدْرَكْنا أقْوامًا ما كانَ عَلى الأرْضِ عَمَلٌ يَقْدِرُونَ أنْ يَكُونَ سِرًّا فَيَكُونَ جَهْرًا أبَدًا؛ ولَقَدْ كانَ المُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ في الدُعاءِ؛ فَلا يُسْمَعُ لَهم صَوْتٌ؛ إنْ هو إلّا الهَمْسُ بَيْنَهم وبَيْنَ رَبِّهِمْ؛ وذَلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى يَقُولُ:﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ ؛ وذَكَرَ عَبْدًا صالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقالَ: ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ [مريم: ٣] "؛ وقالَ الزَجّاجُ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾ مَعْناهُ: اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ؛ ﴿تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ ؛ أيْ بِاسْتِكانَةٍ؛ واعْتِقادِ ذَلِكَ في القُلُوبِ. وقَرَأ جَمِيعُ السَبْعَةِ: "وَخُفْيَةً"؛ بِضَمِّ الخاءِ؛ وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - هُنا؛ وفي "اَلْأنْعامِ" -: "وَخِفْيَةً"؛ بِكَسْرِها؛ وهُما لُغَتانِ؛ وقَدْ قِيلَ: إنَّ "خِفْيَةً"؛ بِكَسْرِ الخاءِ؛ بِمَعْنى: "اَلْخَوْفُ"؛ و"اَلرَّهْبَةُ"؛ ويَظْهَرُ ذَلِكَ مِن كَلامِ أبِي عَلِيٍّ ؛ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَخِيفَةً"؛ مِن "اَلْخَوْفُ"؛ أيْ: "اُدْعُوهُ بِاسْتِكانَةٍ وخَوْفٍ"؛ ذَكَرَها ابْنُ سِيدَةَ في المُحْكَمِ؛ ولَمْ يَنْسُبْها؛ وقالَ أبُو حاتِمٍ: قَرَأها الأعْمَشُ فِيما زَعَمُوا. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ ؛ يُرِيدُ: "فِي الدُعاءِ"؛ وإنْ كانَ اللَفْظُ عامًّا؛ فَإلى هَذا هي الإشارَةُ؛ والِاعْتِداءُ في الدُعاءِ عَلى وُجُوهٍ؛ مِنها الجَهْرُ الكَثِيرُ؛ والصِياحُ؛ كَما «قالَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِقَوْمٍ - وقَدْ رَفَعُوا أصْواتَهم بِالتَكْبِيرِ -: "أيُّها الناسُ؛ اِرْبَعُوا عَلى أنْفُسِكُمْ؛ إنَّكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائِبًا"؛» ومِنها أنْ يَدْعُوَ الإنْسانُ في أنْ تَكُونَ لَهُ (p-٥٨٢)مَنزِلَةُ نَبِيٍّ؛ أو يَدْعُوَ في مُحالٍ؛ ونَحْوِ هَذا مِنَ التَشَطُّطِ؛ ومِنها أنْ يَدْعُوَ طالِبًا مَعْصِيَةً؛ وغَيْرُ ذَلِكَ؛ وفي هَذِهِ الأسْئِلَةِ كِفايَةٌ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ"؛ و"اَلْمُعْتَدِي"؛ هو مُجاوِزُ الحَدِّ؛ ومُرْتَكِبُ الحَظْرِ؛ وقَدْ يُتَفاضَلُ بِحَسَبِ ما اعْتُدِيَ فِيهِ؛ ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ قالَ: « "سَيَكُونُ أقْوامٌ يَعْتَدُونَ في الدُعاءِ؛ وحَسْبُ المَرْءِ أنْ يَقُولَ: اَللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ الجَنَّةَ وما قَرَّبَ إلَيْها مِن قَوْلٍ وعَمَلٍ؛ وأعُوذُ بِكَ مِنَ النارِ وما قَرَّبَ إلَيْها مِن قَوْلٍ وعَمَلٍ".» وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلا تُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ ألْفاظٌ عامَّةٌ؛ تَتَضَمَّنُ كُلَّ إفْسادٍ؛ قَلَّ أو كَثُرَ؛ بَعْدَ إصْلاحٍ؛ قَلَّ أو كَثُرَ؛ والقَصْدُ بِالنَهْيِ هو عَلى العُمُومِ؛ وتَخْصِيصُ شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ في هَذا تَحَكُّمٌ؛ إلّا أنْ يُقالَ عَلى وِجْهَةِ المِثالِ؛ قالَ الضَحّاكُ: مَعْناهُ: لا تُعَوِّرُوا الماءَ المَعِينَ؛ ولا تَقْطَعُوا الشَجَرَ المُثْمِرَ ضِرارًا؛ وقَدْ ورَدَ: "قَطْعُ الدِينارِ والدِرْهَمِ مِنَ الفَسادِ في الأرْضِ"؛ وقَدْ قِيلَ: "تِجارَةُ الحُكّامِ مِنَ الفَسادِ في الأرْضِ"؛ وقالَ بَعْضُ الناسِ: اَلْمُرادُ: "وَلا تُشْرِكُوا في الأرْضِ بَعْدَ أنْ أصْلَحَها اللهُ تَعالى بِبِعْثَةِ الرُسُلِ - عَلَيْهِمُ السَلامُ -؛ وتَقْرِيرِ الشَرائِعِ؛ ووُضُوحِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ"؛ وقائِلُ هَذِهِ المَقالَةِ قَصَدَ إلى أكْبَرِ فَسادٍ بَعْدَ أعْظَمِ صَلاحٍ؛ فَخَصَّهُ بِالذِكْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ ؛ أمْرٌ بِأنْ يَكُونَ الإنْسانُ في حالَةِ تَرَقُّبٍ؛ وتَحَزُّنٍ؛ وتَأْمِيلٍ لِلَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ حَتّى يَكُونَ الرَجاءُ والخَوْفُ كالجَناحَيْنِ لِلطّائِرِ؛ يَحْمِلانِهِ في طَرِيقِ اسْتِقامَةٍ؛ وإنِ انْفَرَدَ أحَدُهُما هَلَكَ الإنْسانُ؛ وقَدْ قالَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ: يَنْبَغِي أنْ يَغْلِبَ الخَوْفُ الرَجاءَ؛ طُولَ الحَياةِ؛ فَإذا جاءَ المَوْتُ غَلَبَ الرَجاءُ؛ وقَدْ رَأى كَثِيرٌ مِنَ (p-٥٨٣)العُلَماءِ أنْ يَكُونَ الخَوْفُ أغْلَبَ عَلى المَرْءِ بِكَثِيرٍ؛ وهَذا كُلُّهُ احْتِياطٌ؛ ومِنهُ تَمَنِّي الحَسَنِ البَصْرِيِّ أنْ يَكُونَ الرَجُلَ الَّذِي هو آخِرُ مَن يُدْخَلُ الجَنَّةَ؛ وتَمَنِّي سالِمٍ؛ مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ ؛ أنْ يَكُونَ مِن أصْحابِ الأعْرافِ؛ لِأنَّ مَذْهَبَهُ أنَّهم مُذْنِبُونَ. ثُمَّ آنَسَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ ؛ فَإنَّها آيَةُ وعْدٍ؛ فِيها تَقْيِيدٌ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ ؛ واخْتَلَفَ الناسُ في وجْهِ حَذْفِ التاءِ مِن "قَرِيبٌ"؛ في صِفَةِ الرَحْمَةِ؛ عَلى أقْوالٍ؛ مِنها أنَّهُ عَلى جِهَةِ النَسَبِ؛ أيْ: "ذاتُ قُرْبٍ"؛ ومِنها أنَّهُ لَمّا كانَ تَأْنِيثُها غَيْرَ حَقِيقِيٍّ؛ جَرَتْ مُجْرى "كَفٌّ خَضِيبٌ"؛ و"لِحْيَةٌ دَهِينٌ"؛ ومِنها أنَّها بِمَعْنًى مُذَكَّرٍ؛ فَذُكِرَ الوَصْفَ لِذَلِكَ؛ واخْتَلَفَ أهْلُ هَذا القَوْلِ في تَقْدِيرِ المُذَكَّرِ الَّذِي هي بَدَلٌ مِنهُ؛ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: اَلْغُفْرانُ والعَفْوُ؛ وقالَتْ فِرْقَةٌ: اَلْمَطَرُ؛ وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ؛ وقالَ الفَرّاءُ: "لَفْظَةُ "اَلْقُرْبُ"؛ إذا اسْتُعْمِلَتْ في النَسَبِ؛ والقَرابَةِ؛ فَهي مَعَ المُؤَنَّثِ بِتاءٍ؛ ولا بُدَّ؛ وإذا اسْتُعْمِلَتْ في قُرْبِ المَسافَةِ؛ [تُذَكَّرُ؛ وتُؤَنَّثُ]". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: أو "اَلزَّمَنُ"؛ فَقَدْ تَجِيءُ مَعَ المُؤَنَّثِ بِتاءٍ؛ وقَدْ تَجِيءُ بِغَيْرِ تاءٍ؛ وهَذا مِنهُ؛ ومِن هَذا قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ عَشِيَّةَ لا عَفْراءَ مِنكَ قَرِيبَةٌ ∗∗∗ فَتَدْنُو ولا عَفْراءَ مِنكَ بَعِيدُ فَجَمَعَ في هَذا البَيْتِ بَيْنَ الوَجْهَيْنِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: هَذا قَوْلُ الفَرّاءِ في كِتابِهِ؛ وقَدْ مَرَّ في بَعْضِ كُتُبِ المُفَسِّرِينَ مُقَيَّدًا؛ ورَدَّ الزَجّاجُ (p-٥٨٤)عَلى هَذا القَوْلِ؛ وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: "قَرِيبٌ"؛ في الآيَةِ؛ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلرَّحْمَةِ؛ وإنَّما هي ظَرْفٌ لَها؛ ومَوْضِعٌ؛ فَيَجِيءُ هَكَذا في المُؤَنَّثِ؛ والِاثْنَيْنِ؛ والجَمْعِ؛ وكَذَلِكَ "بَعِيدٌ"؛ فَإذا جَعَلُوها صِفَةً بِمَعْنى "مُقَرَّبَةٌ"؛ قالُوا: "قَرِيبَةٌ"؛ و"قَرِيبَتانِ"؛ و"قَرِيباتٌ"؛ وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى "قَرِيبٌ"؛ إنَّما يُرادُ بِهِ مُقارَبَةُ الأرْواحِ لِلْأجْسادِ؛ أيْ: عِنْدَ ذَلِكَ تَنالُهُمُ الرَحْمَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب