الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَبَيْنَهُما حِجابٌ وعَلى الأعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيماهم ونادَوْا أصْحابَ الجَنَّةِ أنْ سَلامٌ عَلَيْكم لَمْ يَدْخُلُوها وهم يَطْمَعُونَ﴾ ﴿وَإذا صُرِفَتْ أبْصارُهم تِلْقاءَ أصْحابِ النارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظالِمِينَ﴾ ﴿وَنادى أصْحابُ الأعْرافِ رِجالا يَعْرِفُونَهم بِسِيماهم قالُوا ما أغْنى عنكم جَمْعُكم وما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ اَلضَّمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ "وَبَيْنَهُما"؛﴾ عائِدٌ عَلى الجَنَّةِ؛ والنارِ؛ ويُحْتَمَلُ عَلى الجَمْعَيْنِ؛ إذْ يَتَضَمَّنُهُما قَوْلُهُ - تَبارَكَ وتَعالى -: ﴿وَنادى أصْحابُ الجَنَّةِ أصْحابُ النارِ﴾ [الأعراف: ٤٤] ؛ و"اَلْحِجابُ": هو السُورُ الَّذِي ذَكَرَهُ - عَزَّ وجَلَّ - في قَوْلِهِ: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهم بِسُورٍ لَهُ بابٌ﴾ [الحديد: ١٣] ؛ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وقالَ مُجاهِدٌ: "اَلْأعْرافُ": حِجابٌ بَيْنَ الجَنَّةِ؛ والنارِ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - أيْضًا: هو تَلٌّ بَيْنَ الجَنَّةِ؛ والنارِ؛ وذَكَرَ الزَهْراوِيُّ حَدِيثًا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: « "إنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ؛ وإنَّهُ يَقُومُ يَوْمَ القِيامَةِ يَمْثُلُ بَيْنَ الجَنَّةِ والنارِ؛ يُحْتَبَسُ عَلَيْهِ أقْوامٌ (p-٥٧٠)يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ؛ هم إنْ شاءَ اللهُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ"؛» وذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ عن صَفْوانَ بْنِ سُلَيْمٍ أنَّ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: « "إنَّ أُحُدًا عَلى رُكْنٍ مِن أرْكانِ الجَنَّةِ"؛» و"اَلْأعْرافُ": جَمْعُ "عُرْفٌ"؛ وهو المُرْتَفَعُ مِنَ الأرْضِ؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ كُلُّ كِنازٍ لَحْمُهُ نِيافِ ∗∗∗ كالجَبَلِ المُوفِي عَلى الأعْرافِ ومِنهُ قَوْلُ الشَمّاخِ: ؎ وظَلَّتْ بِأعْرافٍ تَعالى كَأنَّها ∗∗∗ ∗∗∗ رِماحٌ نَحاها وِجْهَةَ الرِيحِ راكِزُ ومِنهُ عُرْفُ الفَرَسِ؛ وعُرْفُ الدِيكِ؛ لِعُلُوِّهِما؛ وقالَ السُدِّيُّ: سُمِّيَ "اَلْأعْرافُ"؛ "أعْرافًا"؛ لِأنَّ أصْحابَهُ يَعْرِفُونَ الناسَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذِهِ عُجْمَةٌ؛ وإنَّما المُرادُ بِأعْرافِ ذَلِكَ الحِجابِ أعالِيهِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى "رِجالٌ"؛ قالَ أبُو مِجْلَزٍ؛ لاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ: هُمُ المَلائِكَةُ؛ ولَفْظَةُ "رِجالٌ"؛ مُسْتَعارَةٌ لَهُمْ؛ لَمّا كانُوا في تَماثِيلِ رِجالٍ؛ قالَ: وهم ذُكُورٌ؛ لَيْسُوا بِإناثٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقَدْ سَمّى اللهَ تَعالى رِجالًا في الجِنِّ. (p-٥٧١)وَقالَ الجُمْهُورُ: هم رِجالٌ مِنَ البَشَرِ؛ ثُمَّ اخْتَلَفُوا؛ فَقالَ مُجاهِدٌ: هم قَوْمٌ صالِحُونَ فُقَهاءُ عُلَماءُ؛ وحَكى الزَهْراوِيُّ أنَّهم عُدُولُ القِيامَةِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلى الناسِ بِأعْمالِهِمْ؛ وهم في كُلِّ أُمَّةٍ؛ وقالَهُ الزَجّاجُ ؛ وقالَ قَوْمٌ: هم أنْبِياءُ؛ وقالَ المَهْدَوِيُّ: هُمُ الشُهَداءُ؛ وقالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ: هُمُ المُسْتَشْهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ تَعالى الَّذِينَ خَرَجُوا عُصاةً لِآبائِهِمْ؛ وذَكَرَ الطَبَرِيُّ في ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وأنَّهُ تَعادَلَ عُقُوقُهم واسْتِشْهادُهُمْ؛ وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ؛ والشَعْبِيُّ ؛ وحُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ ؛ وابْنُ عَبّاسٍ ؛ وابْنُ جُبَيْرٍ ؛ والضَحّاكُ: هم قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَناتُهُمْ؛ وسَيِّئاتُهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقَعَ في مُسْنَدِ خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمانَ في آخِرِ الجُزْءِ الخامِسَ عَشَرَ حَدِيثٌ عن جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "تُوضَعُ المَوازِينُ يَوْمَ القِيامَةِ؛ فَتُوزَنُ الحَسَناتُ؛ والسَيِّئاتُ؛ فَمَن رَجَحَتْ حَسَناتُهُ عَلى سَيِّئاتِهِ مِثْقالَ صُؤابَةٍ دَخَلَ الجَنَّةَ؛ ومَن رَجَحَتْ سَيِّئاتُهُ عَلى حَسَناتِهِ مِثْقالَ صُؤابَةٍ دَخَلَ النارَ"؛ قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَناتُهُ وسَيِّئاتُهُ؟ قالَ: "أُولَئِكَ أصْحابُ الأعْرافِ؛ لَمْ يَدْخُلُوها؛ وهم يَطْمَعُونَ"؛» وقالَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ: هم قَوْمٌ أبْطَأتْ بِهِمْ صِغارُهم إلى آخِرِ الناسِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: واللازِمُ مِنَ الآيَةِ أنَّ عَلى أعْرافِ ذَلِكَ السُورِ - أو عَلى مَواضِعَ مُرْتَفِعَةٍ عَنِ الفَرِيقَيْنِ حَيْثُ شاءَ اللهُ تَعالى - رِجالًا مِن أهْلِ الجَنَّةِ؛ يَتَأخَّرُ دُخُولُهُمْ؛ ويَقَعُ لَهم ما وُصِفَ مِنَ الِاعْتِبارِ في الفَرِيقَيْنِ. و﴿يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيماهُمْ﴾ ؛ أيْ بِعَلامَتِهِمْ؛ وهي بَياضُ الوُجُوهِ؛ وحُسْنُها في أهْلِ الجَنَّةِ؛ وسَوادُها وقُبْحُها في أهْلِ النارِ؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ؛ في حَيِّزِ هَؤُلاءِ؛ وحَيِّزِ هَؤُلاءِ؛ و"اَلسِّيما": (p-٥٧٢)اَلْعَلامَةُ؛ وهو مِن "وَسَمَ"؛ وفِيهِ قَلْبٌ؛ يُقالُ: "سِيما"؛ مَقْصُورًا؛ و"سِيماءُ"؛ مَمْدُودًا؛ و"سِيمِياءُ"؛ بِكَسْرِ المِيمِ؛ وزِيادَةِ ياءٍ؛ فَوَزْنُها "عِفْلا"؛ مَعَ كَوْنِها مِن "وَسَمَ"؛ وقِيلَ: هي مِن "سَوَمَ"؛ إذا عَلِمَ؛ فَوَزْنُها - عَلى هَذا - "فِعْلا". ونِداؤُهم أصْحابَ الجَنَّةِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ وأصْحابُ الجَنَّةِ لَمْ يَدْخُلُوها بَعْدُ؛ فَيَكُونَ أيْضًا قَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَدْخُلُوها وهم يَطْمَعُونَ﴾ ؛ مُحْتَمِلًا أنْ يُعْنى بِهِ أهْلُ الجَنَّةِ؛ وهو تَأْوِيلُ أبِي مِجْلَزٍ؛ إذْ جَعَلَ أصْحابَ الأعْرافِ مَلائِكَةً؛ ومُحْتَمِلًا أنْ يُعْنى بِهِ أهْلُ الأعْرافِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ نِداؤُهم أهْلَ الجَنَّةِ بِالسَلامِ وهم قَدْ دَخَلُوها؛ فَلا يَحْتَمِلُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ تَعالى ﴿لَمْ يَدْخُلُوها وهم يَطْمَعُونَ﴾ ؛ إلّا أهْلَ الأعْرافِ فَقَطْ؛ وهو تَأْوِيلُ السُدِّيِّ ؛ وقَتادَةَ ؛ وابْنِ مَسْعُودٍ ؛ والحَسَنِ ؛ وقالَ: واللهِ ما جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ الطَمَعَ في قُلُوبِهِمْ إلّا لِخَيْرٍ أرادَهُ بِهِمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا هو الأظْهَرُ الألْيَقُ؛ ولا نَظَرَ لِأحَدٍ مَعَ قَوْلِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَهم يَطْمَعُونَ﴾ ؛ هي جُمْلَةٌ مَقْطُوعَةٌ؛ أخْبَرَ أنَّهم لَمْ يَدْخُلُوها؛ وهم طامِعُونَ بِدُخُولِها؛ فَكَأنَّ الجُمْلَةَ حالٌ مِنَ الضَمِيرِ في "نادَوْا". وقَرَأ أبُو رُقَيْشٍ النَحْوِيُّ: "لَمْ يَدْخُلُوها وهم طامِعُونَ"؛ وقَرَأ إيادُ بْنُ لَقِيطٍ: "وَهم ساخِطُونَ"؛ وذَكَرَ بَعْضُ الناسِ قَوْلًا؛ وهو أنْ يُقَدَّرَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ "وَهم يَطْمَعُونَ"؛﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ الجَماعَةِ في "يَدْخُلُوها"؛ ويَكُونَ المَعْنى: "لَمْ يَدْخُلُوها في حالِ طَمَعٍ بِها؛ بَلْ كانُوا في حالِ يَأْسٍ وخَوْفٍ؛ لَكِنَّهم عَمَّهم عَفْوُ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ -. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّما طَمِعَ أصْحابُ الأعْرافِ لِأنَّ النُورَ الَّذِي كانَ في أيْدِيهِمْ لَمْ يُطْفَأْ حِينَ يُطْفَأُ كُلُّ ما بِأيْدِي المُنافِقِينَ. والضَمِيرُ في "أبْصارُهُمْ"؛ عائِدٌ عَلى أصْحابِ الأعْرافِ؛ فَهم يُسَلِّمُونَ عَلى أصْحابِ الجَنَّةِ؛ وإذا نَظَرُوا إلى النارِ وأهْلِها دَعَوُا اللهَ تَعالى في التَخْلِيصِ مِنها؛ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ؛ وقالَ أبُو مِجْلَزٍ: اَلضَّمِيرُ لِأهْلِ الجَنَّةِ؛ وهم لَمْ يَدْخُلُوها بَعْدُ؛ وقَوْلُهُ تَعالى "صُرِفَتْ"؛ مُعْطِيَةٌ ما هُنالِكَ مِن هَوْلِ المَطْلَعِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى "رِجالًا"؛ يُرِيدُ مِن أهْلِ النارِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا النِداءُ وأهْلُ النارِ في (p-٥٧٣)النارِ؛ فَتَكُونَ مَعْرِفَتُهم بِعَلاماتٍ مُعَرِّفَةٍ بِأنَّهم أُولَئِكَ الَّذِينَ عُرِفُوا في الدُنْيا؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا النِداءُ وهم يُحْمَلُونَ إلى النارِ؛ فَتَكُونَ السِيما الَّتِي عُرِفُوا بِها أنَّهم أهْلُ النارِ؛ تَسْوِيدَ الوُجُوهِ وتَشْوِيهَ الخِلَقِ؛ وقالَ أبُو مِجْلَزٍ: اَلْمَلائِكَةُ تُنادِي رِجالًا في النارِ؛ وقالَ غَيْرُهُ: بَلِ الآدَمِيُّونَ يُنادُونَ أهْلَ النارِ؛ وقِيلَ: إنَّ "ما"؛ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ "ما أغْنى"؛﴾ اِسْتِفْهامٌ بِمَعْنى التَقْرِيرِ؛ والتَوْبِيخِ؛ وقِيلَ: "وَما"؛ نافِيَةٌ؛ والأوَّلُ أصْوَبُ؛ و"جَمْعُكُمْ"؛ لَفْظٌ يَعُمُّ جُمُوعَ الأجْنادِ؛ والخَوَلِ؛ وجَمْعَ المالِ؛ لِأنَّ المُرادَ بِالرِجالِ أنَّهم جَبّارُونَ مُلُوكٌ يُقَرَّرُونَ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى مَعْنى الإهانَةِ؛ والخِزْيِ؛ و"ما"؛ اَلثّانِيَةُ مَصْدَرِيَّةٌ؛ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "تَسْتَكْثِرُونَ"؛ بِالثاءِ مُثَلَّثَةً؛ مِن "اَلْكَثْرَةُ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب