الباحث القرآني
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿وَنَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ مِن غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ وقالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا وما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدانا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ ونُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
هَذا إخْبارٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ - أنَّهُ يُنَقِّي قُلُوبَ ساكِنِي الجَنَّةِ مِنَ الغِلِّ والحِقْدِ؛ وذَلِكَ أنَّ صاحِبَ الغِلِّ مُتَعَذِّبٌ بِهِ؛ ولا عَذابَ في الجَنَّةِ؛ ووَرَدَ في الحَدِيثِ: « "اَلْغِلُّ عَلى بابِ الجَنَّةِ كَمَبارِكِ الإبِلِ؛ قَدْ نَزَعَهُ اللهُ - تَبارَكَ وتَعالى - مِن قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ".»
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ومَعْنى هَذا الحَدِيثِ - إذا حُمِلَ عَلى حَقِيقَتِهِ - أنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - يَخْلُقُ جَوْهَرًا؛ يَجْعَلُهُ حَيْثُ يُرى كَمَبارِكِ الإبِلِ؛ لِأنَّ الغِلَّ عَرَضٌ لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ؛ وإنْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ اسْتِعارَةٌ؛ وعُبِّرَ [بِها] عن سُقُوطِهِ عن نُفُوسِهِمْ؛ فَهَذِهِ الألْفاظُ عَلى جِهَةِ التَمْثِيلِ؛ كَما تَقُولُ: "فُلانٌ إذا دَخَلَ عَلى الأمِيرِ تَرَكَ نَخْوَتَهُ بِالبابِ مُلْقاةً"؛ فَلَهُ وجْهٌ؛ والأوَّلُ أصْوَبَ؛ وأجْرى مَعَ الشَرْعِ في أشْياءَ كَثِيرَةٍ؛ مِثْلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -: « "يُؤْتى بِالمَوْتِ يَوْمَ القِيامَةِ كَأنَّهُ كَبْشٌ؛ فَيُذْبَحُ"؛» وغَيْرِ ذَلِكَ؛ ورَوى الحَسَنُ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - قالَ: "فِينا واللهِ أهْلَ بَدْرٍ نَزَلَتْ: ﴿وَنَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ مِن غِلٍّ إخْوانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧] " ؛ ورُوِيَ عنهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: "فِينا واللهِ نَزَلَتْ: ﴿وَنَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ مِن غِلٍّ﴾ "؛ وذَكَرَ قَتادَةُ أنَّ عَلِيًّا قالَ: (p-٥٦٦)"إنِّي لَأرْجُو أنْ أكُونَ أنا وعُثْمانُ ؛ وطَلْحَةُ ؛ والزُبَيْرُ - رَضِيَ اللهُ عنهم - مِنَ الَّذِينَ قالَ اللهُ تَعالى فِيهِمْ: ﴿وَنَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ مِن غِلٍّ﴾ ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا هو المَعْنى الصَحِيحُ؛ فَإنَّ الآيَةَ عامَّةٌ في أهْلِ الجَنَّةِ؛ و"اَلْغِلُّ": اَلْحِقْدُ؛ والإحْنَةُ الخَفِيَّةُ في النَفْسِ؛ وجَمْعُهُ: "غِلالٌ"؛ ومِنهُ: "اَلْغُلُولُ"؛ أخْذٌ في خَفاءٍ؛ ومِنهُ: "اَلِانْغِلالُ في الشَيْءِ"؛ ومِنهُ: "اَلْمُغِلُّ بِالأمانَةِ"؛ ومِنهُ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ:
؎ سُلّاءَةً كَعَصا النَهْدِيِّ غُلَّ لَها ∗∗∗ ذُو فَيْئَةٍ مِن نَوى قُرّانَ مَعْجُومُ
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ﴾ ؛ بَيِّنٌ؛ لِأنَّ ما كانَ لاطِئًا بِالأرْضِ فَهو تَحْتَ ما كانَ مُنْتَصِبًا آخِذًا في سَماءٍ؛ و"هَدانا"؛ بِمَعْنى: أرْشَدَنا؛ والإشارَةُ بِـ "هَذا"؛ تُتَّجَهُ أنْ تَكُونَ إلى الإيمانِ والأعْمالِ الصالِحَةِ المُؤَدِّيَةِ إلى دُخُولِ الجَنَّةِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ إلى الجَنَّةِ نَفْسِها؛ أيْ: أرْشَدَنا إلى طُرُقِها؛ ولِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الوَجْهَيْنِ أمْثِلَةٌ في القُرْآنِ.
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ: "ما كُنّا لِنَهْتَدِيَ"؛ بِسُقُوطِ الواوِ مِن قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿ "وَما كُنّا"؛﴾ وكَذَلِكَ هي في مَصاحِفِ أهْلِ الشامِ؛ قالَ أبُو عَلِيٍّ: وجْهُ سُقُوطِ الواوِ أنَّ الكَلامَ مُتَّصِلٌ مُرْتَبِطٌ بِما قَبْلَهُ.
ولَمّا رَأوا تَصْدِيقَ ما جاءَتْ بِهِ الأنْبِياءُ عَنِ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى -: وعايَنُوا إنْجازَ المَواعِيدِ؛ قالُوا: ﴿لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ﴾ ؛ فَقَضَوْا بِأنَّ ذَلِكَ حَقٌّ قَضاهُ مَن يُحِسُّ؛ وكانُوا في الدُنْيا يَقْضُونَ بِأنَّ ذَلِكَ حَقٌّ قَضاهُ مَن يَسْتَدِلُّ؛ و﴿ "وَنُودُوا"؛﴾ أيْ: "قِيلَ لَهم بِصِياحٍ"؛ وهَذا النِداءُ مِن قِبَلِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ و"أنْ" يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِمَعْنى النِداءِ؛ بِمَعْنى "أيْ"؛ (p-٥٦٧)وَيُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَقِيلَةِ؛ وفِيها ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ؛ تَقْدِيرُهُ: "أنَّهُ تِلْكُمُ الجَنَّةُ"؛ ونَحْوُ هَذا قَوْلُ الأعْشى:
؎ في فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ∗∗∗ ∗∗∗ أنْ هالِكٌ كُلُّ مَن يَحْفى ويَنْتَعِلُ
تَقْدِيرُهُ: "أنَّهُ هالِكٌ"؛ ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ:
؎ أُكاشِرُهُ وأعْلَمُ أنْ كِلانا ∗∗∗ ∗∗∗ عَلى ما ساءَ صاحِبَهُ حَرِيصُ
و﴿تِلْكُمُ الجَنَّةُ﴾ ؛ اِبْتِداءٌ؛ وصِفَةٌ؛ و"أُورِثْتُمُوها"؛ اَلْخَبَرُ؛ و"تِلْكُمُ"؛ إشارَةٌ فِيها غَيْبَةٌ؛ فَإمّا لِأنَّهم كانُوا وُعِدُوا بِها في الدُنْيا؛ فالإشارَةُ إلى تِلْكَ؛ أيْ: "تِلْكم هَذِهِ الجَنَّةُ"؛ وحُذِفَتْ "هَذِهِ"؛ وإمّا قَبْلَ الدُخُولِ؛ وإمّا بَعْدَ الدُخُولِ؛ وهم مُجْتَمِعُونَ في مَوْضِعٍ مِنها؛ فَكُلٌّ غائِبٌ عن مَنزِلِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ؛ لا عَلى طَرِيقِ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلى اللهِ تَعالى ؛ لَكِنْ بِقَرِينَةِ رَحْمَتِهِ تَعالى ؛ وتَغَمُّدِهِ؛ والأعْمالُ أمارَةٌ مِنَ اللهِ تَعالى ؛ وطَرِيقٌ إلى قُوَّةِ الرَجاءِ؛ ودُخُولُ الجَنَّةِ إنَّما هو بِمُجَرَّدِ رَحْمَةِ اللهِ تَعالى ؛ والقَسْمُ فِيها عَلى قَدْرِ العَمَلِ؛ و"أُورِثْتُمْ"؛ مُشِيرَةٌ إلى الأقْسامِ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ ونافِعٌ ؛ وعاصِمٌ ؛ وابْنُ عامِرٍ: ﴿ "أُورِثْتُمُوها"؛﴾ وكَذَلِكَ في "اَلزُّخْرُفِ"؛ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو ؛ والكِسائِيُّ وحَمْزَةُ: "أُورِتَّمُوها"؛ بِإدْغامِ الثاءِ في التاءِ؛ وكَذَلِكَ في "اَلزُّخْرُفِ".
{"ayah":"وَنَزَعۡنَا مَا فِی صُدُورِهِم مِّنۡ غِلࣲّ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ وَقَالُوا۟ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی هَدَىٰنَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِیَ لَوۡلَاۤ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَاۤءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوۤا۟ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق