الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللهِ كَذِبًا أو كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنالُهم نَصِيبُهم مِنَ الكِتابِ حَتّى إذا جاءَتْهم رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهم قالُوا أيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنَ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا وشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ (p-٥٥٨)هَذِهِ آيَةُ وعِيدٍ واسْتِفْهامٍ؛ عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ؛ أيْ: لا أحَدَ أظْلَمُ مِنهُ؛ و"اِفْتَرى"؛ مَعْناهُ: اِخْتَلَقَ؛ وهَذِهِ - وإنْ كانَتْ مُتَّصِلَةً بِما قَبْلَها؛ أيْ: "كَيْفَ يَجْعَلُونَ الرُسُلَ مُفْتَرِينَ؟ ولا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى؛ ولا حَظَّ لِلرُّسُلِ إلّا أنْ يُرْحَمَ مَنِ اهْتَدى؛ ويُعَذَّبَ مَن كَفَرَ" - فَهي أيْضًا مُشِيرَةٌ بِالمَعْنى إلى كُلِّ مُفْتَرٍ؛ إلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿واللهُ أمَرَنا بِها﴾ [الأعراف: ٢٨]. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿أو كَذَّبَ بِآياتِهِ﴾ ؛ إشارَةٌ إلى جَمِيعِ الكَفَرَةِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿مِنَ الكِتابِ﴾ ؛ قالَ الحَسَنُ؛ والسُدِّيُّ ؛ وأبُو صالِحٍ: مَعْناهُ: مِنَ المُقَرَّرِ في اللَوْحِ المَحْفُوظِ؛ فالكِتابُ عِبارَةٌ عَنِ اللَوْحِ المَحْفُوظِ؛ وقَدْ تَقَرَّرَ في الشَرْعِ أنَّ حَظَّهم فِيهِ العَذابُ؛ والسُخْطُ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وابْنُ جُبَيْرٍ ؛ ومُجاهِدٌ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿مِنَ الكِتابِ﴾ ؛ يُرِيدُ: مِنَ الشَقاءِ؛ والسَعادَةِ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُ عَلَيْهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويُؤَيِّدُ هَذا القَوْلَ الحَدِيثُ المَشْهُورُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أنَّ المَلَكَ يَأْتِي إذا خُلِقَ الجَنِينَ في الرَحِمِ؛ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ؛ وأجَلَهُ؛ وشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - أيْضًا؛ ومُجاهِدٌ ؛ وقَتادَةُ ؛ والضَحّاكُ: اَلْكِتابِ يُرادُ بِهِ الَّذِي تَكْتُبُهُ المَلائِكَةُ مِن أعْمالِ الخَلِيقَةِ؛ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ؛ فَيَنالُ هَؤُلاءِ نَصِيبَهم مِن ذَلِكَ؛ وهو الكُفْرُ؛ والمَعاصِي؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا؛ ومُجاهِدٌ ؛ والضَحّاكُ: "مِنَ الكِتابِ"؛ يُرادُ بِهِ: "مِنَ القُرْآنِ"؛ وحَظُّهم فِيهِ أنَّ وُجُوهَهم تُسَوَّدُ يَوْمَ القِيامَةِ"؛ وقالَ الرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ ؛ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ؛ وابْنُ زَيْدٍ: اَلْمَعْنِيُّ بِالنَصِيبِ: ما سَبَقَ لَهم في أُمِّ الكِتابِ؛ مِن رِزْقٍ؛ وعُمْرٍ ؛ وخَيْرٍ؛ وشَرٍّ؛ في الدُنْيا؛ ورَجَّحَ الطَبَرِيُّ هَذا؛ واحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿حَتّى إذا جاءَتْهم رُسُلُنا﴾ ؛ أيْ: "عِنْدَ انْقِضاءِ ذَلِكَ"؛ فَكانَ مَعْنى الآيَةِ عَلى هَذا التَأْوِيلِ: "أُولَئِكَ يَتَمَتَّعُونَ؛ ويَتَصَرَّفُونَ مِنَ الدُنْيا؛ بِقَدْرِ ما (p-٥٥٩)كُتِبَ لَهُمْ؛ حَتّى إذا جاءَتْهم رُسُلُنا لِمَوْتِهِمْ..."؛ وهَذا تَأْوِيلُ جَماعَةٍ في مَجِيءِ الرُسُلِ لِلتَّوَفِّي؛ وعَلى هَذا يَتَرَتَّبُ تَرْجِيحُ الطَبَرِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ؛ وقالَتْ فِرْقَةٌ: "رُسُلُنا"؛ يُرِيدُ بِهِمْ: مَلائِكَةَ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ؛ و"يَتَوَفَّوْنَهُمْ"؛ مَعْناهُ: "يَسْتَوْفُونَهم عَدَدًا؛ في السَوْقِ إلى جَهَنَّمَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويَتَرَتَّبُ هَذا التَأْوِيلُ مَعَ التَأْوِيلاتِ المُتَقَدِّمَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿نَصِيبُهم مِنَ الكِتابِ﴾ ؛ لِأنَّ النَصِيبَ عَلى تِلْكَ التَأْوِيلاتِ إنَّما يَنالُهم في الآخِرَةِ؛ وقَدْ قُضِيَ مَجِيءُ رُسُلِ المَوْتِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنِ الرُسُلِ: ﴿أيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ﴾ ؛ اِسْتِفْهامُ تَقْرِيرٍ؛ وتَوْبِيخٍ؛ وتَوْقِيفٍ عَلى خِزْيٍ؛ وهو إشارَةٌ إلى الأصْنامِ؛ والأوثانِ؛ وكُلِّ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ تَعالى ؛ و"تَدْعُونَ"؛ مَعْناهُ: "تَعْبُدُونَ؛ وتُؤَمِّلُونَ"؛ وقَوْلُهُمْ: "ضَلُّوا"؛ مَعْناهُ: هَلَكُوا؛ وتَلَفُوا؛ وفُقِدُوا؛ ثُمَّ ابْتَدَأ الخَبَرَ عَنِ المُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿وَشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ ؛ وهَذِهِ الآيَةُ؛ وما شاكَلَها؛ تُعارِضُ في الظاهِرِ قَوْلَهُ تَعالى حِكايَةً عنهُمْ: ﴿واللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ؛ واجْتِماعُهُما إمّا أنْ يَكُونَ في طَوائِفَ مُخْتَلِفَةٍ؛ أو في أوقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ يَقُولُونَ في حالِ كَذا؛ وحالِ كَذا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب