الباحث القرآني
وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَيْطانُ كَما أخْرَجَ أبَوَيْكم مِنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عنهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إنَّهُ يَراكم هو وقَبِيلُهُ مِنَ حَيْثُ لا تَرَوْنَهم إنّا جَعَلْنا الشَياطِينَ أولِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللهُ أمَرَنا بِها قُلْ إنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أتَقُولُونَ عَلى اللهَ ما لا تَعْلَمُونَ﴾
هَذِهِ المُخاطَبَةُ لِجَمِيعِ العالَمِ؛ والمَقْصُودُ بِها في ذَلِكَ الوَقْتِ مَن كانَ يَطُوفُ مِنَ العَرَبِ بِالبَيْتِ عُرْيانًا؛ فَقِيلَ: كانَ ذَلِكَ مِن عادَةِ قُرَيْشٍ؛ وقالَ قَتادَةُ والضَحّاكُ: كانَ ذَلِكَ مِن عادَةِ قَبِيلَةٍ مِنَ اليَمَنِ؛ وقِيلَ: كانَتِ العَرَبُ تَطُوفُ عُراةً؛ إلّا الحُمْسُ وهم قُرَيْشٌ؛ ومَن والاها.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا هو الصَحِيحُ؛ لِأنَّ قُرَيْشًا لَمّا سَنُّوا بَعْدَ عامِ الفِيلِ سَنَنًا عَظَّمُوا بِها حُرْمَتَهم كانَتْ هَذِهِ مِن ذَلِكَ؛ فَكانَ العَرَبِيُّ إمّا أنْ يُعِيرَهُ أحَدٌ مِنَ الحُمْسِ ثَوْبًا؛ فَيَطُوفَ بِهِ؛ وإمّا (p-٥٤٥)أنْ يَطُوفَ في ثِيابِهِ؛ ثُمَّ يُلْقِيَها؛ وتَمادى الأمْرُ حَتّى صارَ عِنْدَ العَرَبِ قُرْبَةً؛ فَكانَتِ العَرَبُ تَقُولُ: نَطُوفُ عُراةً؛ كَما خَرَجْنا مِن بُطُونِ أُمَّهاتِنا؛ ولا نَطُوفُ في ثِيابٍ قَدْ تَدَنَّسْنا فِيها بِالذُنُوبِ؛ ومَن طافَ في ثِيابِهِ فَكانَتْ سُنَّتُهم كَما ذَكَرْنا أنْ يَرْمِيَ تِلْكَ الثِيابَ؛ ولا يَنْتَفِعَ بِها؛ وتُسَمّى تِلْكَ الثِيابُ "اَللَّقى"؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ كَفى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأنَّهُ ∗∗∗ لَقى بَيْنَ أيْدِي الطائِفِينَ حَرِيمُ
وكانَتِ المَرْأةُ تَطُوفُ عُرْيانَةً؛ حَتّى كانَتْ إحْداهُنَّ تَقُولُ:
؎ اَلْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ ∗∗∗ ∗∗∗ فَما بَدا مِنهُ فَلا أُحِلُّهُ
فَنَهى اللهُ - عَزَّ وجَلَّ - عن جَمِيعِ ذَلِكَ؛ ونُودِيَ بِمَكَّةَ في سَنَةِ تِسْعٍ: "لا يَحُجُّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ؛ ولا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ".
و"اَلْفِتْنَةُ"؛ في هَذِهِ الآيَةِ: اَلِاسْتِهْواءُ والغَلَبَةُ عَلى النَفْسِ؛ وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ "لا يَفْتِنَنَّكُمُ"؛﴾ نَهْيُ الشَيْطانِ؛ والمَعْنى: نَهْيُهم أنْفُسَهم عن الِاسْتِماعِ لَهُ؛ والطاعَةِ لِأمْرِهِ؛ كَما قالُوا: "لا أرَيَنَّكَ هَهُنا"؛ فَظاهِرُ اللَفْظِ نَهْيُ المُتَكَلِّمِ نَفْسَهُ؛ ومَعْناهُ نَهْيُ الآخَرِ عَنِ الإقامَةِ بِحَيْثُ يَراهُ؛ وأضافَ الإخْراجَ في هَذِهِ الآيَةِ إلى إبْلِيسَ؛ وذَلِكَ تَجَوُّزٌ؛ بِسَبَبِ أنَّهُ كانَ ساعِيًا في ذَلِكَ؛ ومُسَبِّبًا لَهُ؛ ويُقالُ: "أبٌ"؛ ولِلْأُمِّ: "أبَةٌ"؛ وعَلى هَذا قِيلَ: "أبَوانِ"؛ و"يَنْزِعُ"؛ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَمِيرِ في "أخْرَجَ".
وتَقَدَّمَ الخِلافُ في اللِباسِ مِن قَوْلِ مَن قالَ: "اَلْأظْفارُ"؛ ومَن قالَ: "اَلنُّورُ"؛ ومَن قالَ: "ثِيابُ الجَنَّةِ"؛ وقالَ مُجاهِدٌ: هي اسْتِعارَةٌ؛ وإنَّما أرادَ لُبْسَةَ التُقى المُنْزَلَةَ.
(p-٥٤٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا ضَعِيفٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ "إنَّهُ يَراكُمْ"؛﴾ اَلْآيَةَ؛ زِيادَةٌ في التَحْذِيرِ؛ وإعْلامٌ أنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - قَدْ مَكَّنَ الشَيْطانَ مِنَ ابْنِ آدَمَ في هَذا القَدْرِ؛ وبِحَسَبِ ذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ التَحَذُّرُ بِطاعَةِ اللهِ تَعالى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والشَيْطانُ مَوْجُودٌ؛ قَدْ قَرَّرَتْهُ الشَرِيعَةُ؛ وهو جِسْمٌ؛ "وَقَبِيلُهُ"؛ يُرِيدُ: "نَوْعُهُ؛ وصِنْفُهُ؛ وذُرِّيَّتُهُ"؛ و"حَيْثُ" مَبْنِيَّةٌ عَلى الضَمِّ؛ ومِنَ العَرَبِ مَن يَبْنِيها عَلى الفَتْحِ؛ وذَلِكَ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ؛ قالَ الزَجّاجُ: ما بَعْدَها صِلَةٌ لَها؛ ولَيْسَتْ بِمُضافَةٍ إلَيْهِ؛ قالَ أبُو عَلِيٍّ: هَذا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ ولَيْسَتْ "حَيْثُ" بِمَوْصُولَةٍ؛ إذْ لَيْسَ ثَمَّ عائِدٌ كَما في المَوْصُولاتِ؛ وهي مُضافَةٌ إلى ما بَعْدَها.
ثُمَّ أخْبَرَ - عَزَّ وجَلَّ - أنَّهُ صَيَّرَ الشَياطِينَ أولِياءَ؛ أيْ: صَحابَةً ومُداخَلِينَ إلى الكَفَرَةِ الَّذِينَ لا إيمانَ لَهُمْ؛ وذَكَرَ الزَهْراوِيُّ أنَّ "جَعَلَ"؛ هُنا؛ بِمَعْنى "وَصَفَ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهي نَزْعَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ "وَإذا فَعَلُوا"؛﴾ وما بَعْدَهُ؛ داخِلٌ في صِفَةِ "اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ"؛ لِيَقَعَ التَوْبِيخُ بِصِفَةِ قَوْمٍ جُعِلُوا مِثالًا لِلْمُوَبَّخِينَ؛ إذْ أشْبَهَ فِعْلُهم فِعْلَ المُمَثَّلُ بِهِمْ؛ ويَصِحُّ أنَّ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ مَقْطُوعَةً مِنَ الَّتِي قَبْلَها؛ ابْتِداءَ إخْبارٍ عن كُفّارِ العَرَبِ.
و"اَلْفاحِشَةُ"؛ في هَذِهِ الآيَةِ - وإنْ كانَ اللَفْظُ عامًّا - هِيَ: كَشْفُ العَوْرَةِ عِنْدَ الطَوافِ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُهْرِيِّ أنَّهُ قالَ: في ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ؛ وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ ومُجاهِدٌ ؛ وكانَ قَوْلَ بَعْضِ الكُفّارِ: إنَّ اللهَ تَعالى أمَرَ بِهَذِهِ السُنَنِ الَّتِي لَنا؛ وشَرَعَها؛ فَرَدَّ اللهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ ؛ ثُمَّ وبَّخَهم عَلى كَذِبِهِمْ؛ ووَقَّفَهم عَلى قَوْلِهِمْ ما لا عِلْمَ لَهم بِهِ؛ ولا دِرايَةَ لَهم فِيهِ؛ بَلْ هو دَعْوى؛ واخْتِلاقٌ.
{"ayahs_start":27,"ayahs":["یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ لَا یَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ كَمَاۤ أَخۡرَجَ أَبَوَیۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ یَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِیُرِیَهُمَا سَوۡءَ ٰ تِهِمَاۤۚ إِنَّهُۥ یَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِیلُهُۥ مِنۡ حَیۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّیَـٰطِینَ أَوۡلِیَاۤءَ لِلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ","وَإِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةࣰ قَالُوا۟ وَجَدۡنَا عَلَیۡهَاۤ ءَابَاۤءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَاۤءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ"],"ayah":"یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ لَا یَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ كَمَاۤ أَخۡرَجَ أَبَوَیۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ یَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِیُرِیَهُمَا سَوۡءَ ٰ تِهِمَاۤۚ إِنَّهُۥ یَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِیلُهُۥ مِنۡ حَیۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّیَـٰطِینَ أَوۡلِیَاۤءَ لِلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق