الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهم طائِفٌ مِنَ الشَيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإذا هم مُبْصِرُونَ﴾ ﴿وَإخْوانُهم يَمُدُّونَهم في الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾ ﴿وَإذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إنَّما أتَّبِعُ ما يُوحى إلَيَّ مِن رَبِّي هَذا بَصائِرُ مِن رَبِّكم وهُدًى ورَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ "اتَّقَوْا" هُنا عامَّةٌ في اتِّقاءِ الشِرْكِ واتِّقاءِ المَعاصِي بِدَلِيلِ أنَّ اللَفْظَةَ إنَّما جاءَتْ في مَدْحٍ لَهُمْ، فَلا وجْهَ لِقَصْرِها عَلى اتِّقاءِ الشِرْكِ وحْدَهُ، وأيْضًا فالمُتَّقِي العائِذِ قَدْ يَمَسُّهُ طائِفٌ مِنَ الشَيْطانِ إذْ لَيْسَتِ العِصْمَةُ إلّا لِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ: "طائِفٌ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ: " طَيْفٌ "، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ " طَيِّفٌ "، واللَفْظَةُ إمّا مِن طافَ (p-١٢٠)يَطُوفُ، وإمّا مَن طافَ يَطِيفُ بِفَتْحِ الياءِ، وهي ثابِتَةٌ عَنِ العَرَبِ، وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ في ذَلِكَ: ؎ أنّى ألَمَّ بِكَ الخَيالُ يَطِيفُ ∗∗∗ ومَطافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُعُوفُ فَـ "طائِفٌ" اسْمُ فاعِلٍ كَقائِلٍ مِن قالَ يَقُولُ، وكَبائِعٍ مِن باعَ يَبِيعُ، و"طَيِّفٌ" اسْمُ فاعِلٍ أيْضًا كَمَيِّتٍ مِن ماتَ، أو كَبَيِّعٍ ولَيِّنٍ مِن باعَ يَبِيعُ ولانَ يَلِينُ. وطَيْفٌ يَكُونُ مُخَفَّفًا مِن طَيِّفٍ كَمَيْتٍ مِن مَيِّتٍ، وإذا قَدَّرْنا اللَفْظَةَ مِن طافَ يَطِيفُ فَطَيْفٌ مَصْدَرٌ، وإلى هَذا مالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، وجَعَلَ الطائِفَ كالخاطِرِ والطَيِّبِ كالخَطْرَةِ، وقالَ الكِسائِي: الطَيْفُ اللَمَمُ، والطائِفُ ما طافَ حَوْلَ الإنْسانِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكَيْفَ هَذا وقَدْ قالَ الأعْشى: ؎ وتُصْبِحُ عن غِبِّ السُرى وكَأنَّما ∗∗∗ ∗∗∗ ألَمَّ بِها مِن طائِفِ الجِنِّ أولَقِ ومَعْنى الآيَةِ: إذا مَسَّهم غَضَبٌ وزَيَّنَ الشَيْطانُ مَعَهُ ما لا يَنْبَغِي. وقَوْلُهُ: "تَذَكَّرُوا" إشارَةٌ إلى الِاسْتِعاذَةِ المَأْمُورِ بِها قَبْلُ، وإلى ما لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ مِنَ الأوامِرِ والنَواهِي في النازِلَةِ الَّتِي يَقَعُ تَعَرُّضُ الشَيْطانِ فِيها. وقَرَأ ابْنُ الزُبَيْرِ: "مِنَ الشَيْطانِ تَأمَّلُوا فَإذا هُمْ"، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "إذا طافَ مِنَ الشَيْطانِ طائِفٌ تَأمَّلُوا"، وقالَ (p-١٢١)النَبِيُّ ﷺ: « "إنَّ الغَضَبَ جُنْدٌ مِن جُنْدِ الجِنِّ، أما تَرَوْنَ حُمْرَةَ العَيْنِ وانْتِفاخَ العُرُوقِ؟ فَإذا كانَ ذَلِكَ فالأرْضَ الأرْضَ"،» وقَوْلُهُ: ﴿مُبْصِرُونَ﴾ مِنَ البَصِيرَةِ، أيْ: فَإذا هم قَدْ تَبَيَّنُوا الحَقَّ ومالُوا إلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإخْوانُهم يَمُدُّونَهم في الغَيِّ﴾ الآيَةُ، في هَذِهِ الضَمائِرِ احْتِمالاتٌ، قالَ الزَجّاجُ: هَذِهِ الآيَةُ مُتَّصِلَةٌ في المَعْنى بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهم نَصْرًا ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٢]. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا نَظَرٌ. وقالَ الجُمْهُورُ: إنَّ الآيَةَ مُقَرَّرَةٌ في مَوْضِعِها إلّا أنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿وَإخْوانُهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى الشَياطِينِ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى الكُفّارِ وهُمُ المُرادُ بِالإخْوانِ، والشَيْطانُ في الآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ لِلْجِنْسِ فَلِذَلِكَ عادَ عَلَيْهِمْ هاهُنا ضَمِيرَ جَمْعٍ، فالتَقْدِيرُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ: وإخْوانٌ لِلشَّياطِينِ يَمُدُّونَهُمُ الشَياطِينُ في الغَيِّ، وقالَ قَتادَةُ: إنَّ الضَمِيرَيْنِ في الهاءِ والمِيمِ لِلْكُفّارِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَتَجِيءُ الآيَةُ عَلى هَذا مُعادِلَةٌ لِلَّتِي قَبْلَها، أيْ: إنَّ المُتَّقِينَ حالُهم كَذا وكَذا، وهَؤُلاءِ الكُفّارُ يَمُدُّهم إخْوانُهم مِنَ الشَياطِينِ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي الغَيِّ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾، وعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ التَأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنا أوَّلًا عَنِ الجُمْهُورِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِالإخْوانِ، فَعَلى هَذا يُحْتَمَلُ أنْ يَعْوَدَ الضَمِيرانِ عَلى الكُفّارِ كَما ذَكَرْناهُ عن قَتادَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودا جَمِيعًا عَلى الشَياطِينِ، ويَكُونُ المَعْنى: وإخْوانُ الشَياطِينِ في الغَيِّ بِخِلافِ الأُخُوَّةِ في اللهِ يَمُدُّونَ الشَياطِينَ، أيْ: بِطاعَتِهِمْ لَهم وقَبُولِهِمْ مِنهُمْ، ولا يَتَرَتَّبُ هَذا التَأْوِيلُ عَلى أنْ يَتَعَلَّقَ ﴿فِي (p-١٢٢)الغَيِّ﴾ بِالإمْدادِ، لِأنَّ الإنْسَ لا يُغْوُونَ الشَياطِينَ، والمُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ وصْفُ حالَةِ الكُفّارِ مَعَ الشَياطِينِ كَما وصَفَ حالَةَ المُتَّقِينَ مَعَهم قَبْلُ. وقَرَأ جَمِيعُ السَبْعَةِ غَيْرَ نافِعٍ: "يَمُدُّونَهُمْ" مِن مَدَدْتُ، وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ: "يُمِدُّونَهُمْ" بِضَمِّ الياءِ مِن أمْدَدْتُ، فَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: مَدَّ الشَيْءَ إذا كانَتِ الزِيادَةُ مِن جِنْسِهِ، وأمَدَّهُ إذا كانَتْ مِن شَيْءٍ آخَرَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وقالَ الجُمْهُورُ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ إلّا أنَّ المُسْتَعْمَلَ في المَحْبُوبِ "أمَدَّ"، فَمِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنَّما نُمِدُّهم بِهِ مِن مالٍ وبَنِينَ﴾ [المؤمنون: ٥٥]، وقَوْلُهُ: ﴿وَأمْدَدْناهم بِفاكِهَةٍ﴾ [الطور: ٢٢] وقَوْلُهُ: ﴿أتُمِدُّونَنِ بِمالٍ﴾ [النمل: ٣٦]، والمُسْتَعْمَلُ في المَكْرُوهِ "مَدَّ"، فَمِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥]، ومَدُّ الشَيْطانِ لِلْكَفَرَةِ في الغَيِّ هو التَزْيِينُ لَهم والإغْواءُ المُتَتابِعُ. فَمَن قَرَأ في هَذِهِ الآيَةِ "يَمُدُّونَهُمْ" بِضَمِّ المِيمِ فَهو عَلى المِنهاجِ المُسْتَعْمَلِ، ومَن قَرَأ "يُمِدُّونَهُمْ" فَهو مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي الغَيِّ﴾، كَما يَجُوزُ أنْ تُقَيِّدَ البِشارَةَ فَتَقُولُ: "بَشَّرْتُهُ بَشَرٍّ"، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "يُمادُّونَهُمْ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾ عائِدٌ عَلى الجَمِيعِ، أيْ: هَؤُلاءِ لا يُقْصِرُونَ في الطاعَةِ لِلشَّياطِينِ والكُفْرِ بِاللهِ عَزَّ وجَلَّ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "يُقْصِرُونَ" مِن أقْصَرَ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: "يَقْصُرُونَ" مِن قَصَرَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ﴾. سَبَبُها فِيما رُوِيَ أنَّ الوَحْيَ كانَ يَتَأخَّرُ عَلى (p-١٢٣)النَبِيِّ ﷺ أحْيانًا، فَكانَ الكُفّارُ يَقُولُونَ: "هَلّا اجْتَبَيْتَها"، ومَعْنى اللَفْظَةِ في كَلامِ العَرَبِ: تَخَيَّرْتَها واصْطَفَيْتَها، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ، وغَيْرُهُمُ:المُرادُ بِهَذِهِ اللَفْظَةِ: "هَلّا اخْتَرْتَها واخْتَلَقْتَها مِن قِبَلِكَ ومِن عِنْدِ نَفْسِكَ". والمَعْنى: إذْ كَلامُكَ كُلُّهُ كَذَلِكَ عَلى ما كانَتْ قُرَيْشٌ تَزْعُمُهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا والضَحّاكُ: المُرادُ: "هَلّا تَلَقَّيْتَها مِنَ اللهِ وتَخَيَّرْتَها عَلَيْهِ، إذْ تَزْعُمُ أنَّكَ نَبِيٌّ وأنَّ مَنزِلَتَكَ عِنْدَهُ مَنزِلَةُ الرِسالَةِ"، فَأمَرَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنْ يُجِيبَ بِالتَسْلِيمِ لِلَّهِ تَعالى، وأنَّ الأمْرَ في الوَحْيِ إلَيْهِ يُنْزِلُهُ مَتى شاءَ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ في ذَلِكَ فَقالَ: ﴿قُلْ إنَّما أتَّبِعُ ما يُوحى إلَيَّ مِن رَبِّي﴾، ثُمَّ أشارَ بِقَوْلِهِ: "هَذا" إلى القُرْآنِ، ثُمَّ وصَفَهُ بِأنَّهُ "بَصائِرُ" أيْ عَلاماتُ هُدًى وأنْوارٌ تُضِيءُ القُلُوبَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: هَذا ذُو بَصائِرَ، ويَصِحُّ الكَلامُ دُونَ أنْ يُقَدَّرَ حَذْفُ مُضافٍ لِأنَّ المُشارَ إلَيْهِ بِـ"هَذا" إنَّما هو سُورٌ وآياتٌ وحِكَمٌ، وجازَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ بِـ"هَذا" مِن حَيْثُ اسْمُهُ مُذَكَّرٌ، وجازَ وصْفُهُ بِـ "بَصائِرُ" مِن حَيْثُ هو سُورٌ وآياتٌ. ﴿وَهُدًى ورَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ لِهَؤُلاءِ خاصَّةً. قالَ الطَبَرِيُّ: وأمّا مَن لا يُؤْمِنُ فَهو عَلَيْهِ عَمًى عُقُوبَةً مِنَ اللهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب