الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبادٌ أمْثالُكم فادْعُوهم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكم إنَّ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿ألَهم أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أمْ لَهم أيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أمْ لَهم أعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أمْ لَهم آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكم ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ﴾ ﴿إنَّ ولِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ وهو يَتَوَلّى الصالِحِينَ﴾
قَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبادٌ أمْثالُكُمْ" بِتَثْقِيلِ "إنَّ" ورَفْعِ "عِبادٌ"، وهي مُخاطَبَةٌ لِلْكُفّارِ في تَحْقِيرِ شَأْنِ أصْنامِهِمْ عِنْدَهُمْ، أيْ: إنَّ هَذِهِ الأصْنامَ مَخْلُوقَةٌ مُحْدَثَةٌ إذْ هي أجْسامٌ وأجْرامٌ فَهي مُتَعَبَّدَةٌ أيْ مُتَمَلَّكَةٌ، وقالَ مُقاتِلٌ: إنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ طائِفَةٌ مِنَ العَرَبِ مِن خُزاعَةَ كانَتْ تَعْبُدُ المَلائِكَةَ فَأعْلَمَهُمُ اللهُ أنَّهم عِبادٌ أمْثالُهم لا آلِهَةٌ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "إنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبادًا أمْثالَكُمْ" بِتَخْفِيفِ النُونِ (p-١١٣)مِن "إنَّ" عَلى أنْ تَكُونَ بِمَعْنى "ما" وبِنَصْبِ قَوْلِهِ: "عِبادًا" و"أمْثالَكُمْ"، والمَعْنى بِهَذِهِ القِراءَةِ تَحْقِيرُ شَأْنِ الأصْنامِ ونَفْيِ مُماثَلَتِهِمْ لِلْبَشَرِ، بَلْ هم أقَلُّ وأحْقَرُ إذْ هم جَماداتٌ لا تَفْهَمُ ولا تَعْقِلُ، وسِيبَوَيْهِ يَرى أنَّ "إنْ" إذا كانَتْ بِمَعْنى "ما" فَإنَّها تَضْعُفُ عن رُتْبَةِ "ما" فَيَبْقى الخَبَرُ مَرْفُوعًا وتَكُونُ هي داخِلَةً عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ لا يَنْصِبُهُ، فَكانَ الوَجْهُ عِنْدَهُ في هَذِهِ القِراءَةِ: إنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبادٌ أمْثالُكم. وأبُو العَبّاسِ المُبَرِّدِ يُجِيزُ أنْ تَعْمَلَ عَمَلَ "ما" في نَصْبِ الخَبَرِ، وزَعَمَ الكِسائِيُّ أنَّ "إنْ" بِمَعْنى "ما" لا تَجِيءُ إلّا وبَعْدَها "إلّا" كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنِ الكافِرُونَ إلا في غُرُورٍ﴾ [الملك: ٢٠]. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى الحُجَّةَ بِقَوْلِهِ: ﴿فادْعُوهُمْ﴾ أيْ: فاخْتَبِرُوا فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا فَهم كَما وصَفْنا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَهم أرْجُلٌ﴾ الآيَةُ، الغَرَضُ مِن هَذِهِ الآيَةِ: ألَهم حَواسُّ الحَيِّ وأوصافُهُ؟ فَإذا قالُوا: "لا"، حَكَمُوا بِأنَّها جَماداتٌ، فَجاءَتْ هَذِهِ التَفْصِيلاتُ لِذَلِكَ المُجْمَلِ الَّذِي أُرِيدَ التَقْرِيرُ عَلَيْهِ، فَإذا وقَعَ الإقْرارُ بِتَفْصِيلاتِ القَضِيَّةِ لَزِمَ الإقْرارُ بِعُمُومِها وكانَ بَيانُها أقْوى ولَمْ تَبْقَ بِها اسْتِرابَةٌ. قالَ الزَهْراوِيُّ: المَعْنى: أنْتُمْ أفْضَلُ مِنهم بِهَذِهِ الجَوارِحِ النافِعَةِ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهُمْ؟
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وتَتَقَوّى بِهَذا التَأْوِيلِ قِراءَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، إذْ تَقْتَضِي أنَّ الأوثانَ لَيْسَتْ عِبادًا كالبَشَرِ.
وقَوْلُهُ في الآيَةِ "أمْ" إضْرابٌ لِكُلِّ واحِدَةٍ عَنِ الجُمْلَةِ المُتَقَدِّمَةِ لَها، ولَيْسَتْ "أمِ" المُعادِلَةَ لِلْألِفِ في قَوْلِكَ: "أعِنْدَكَ زَيْدٌ أمْ عَمْرٌو ؟" لِأنَّ المُعادِلَةَ إنَّما هي في السُؤالِ عن شَيْئَيْنِ أحَدُهُما حاصِلٌ، فَإذا وقَعَ التَقْدِيرُ عَلى شَيْئَيْنِ كِلاهُما مَنفِيٌّ فَـ "أمْ" إضْرابٌ عَنِ الجُمْلَةِ الأُولى.
(p-١١٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا عِنْدِي فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ، وأمّا مِن جِهَةِ اللَفْظِ والصِناعَةِ النَحْوِيَّةِ فَهي هي.
وقَرَأ نافِعٌ، والحَسَنُ، والأعْرَجُ: "يَبْطِشُونَ" بِكَسْرِ الطاءِ، وقَرَأ نافِعٌ أيْضًا، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: "يَبْطُشُونَ" بِضَمِّها.
ثُمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ أنْ يُعْجِزَهم بِقَوْلِهِ: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾ أيِ اسْتَنْجِدُوهم واسْتَنْفِدُوهم إلى إضْرارِي وكَيْدِي ولا تُؤَخِّرُونِي، والمَعْنى: فَإنْ كانُوا آلِهَةً فَسَيَظْهَرُ فِعْلُهُمْ، وسَمّاهم شُرَكاءَهم مِن حَيْثُ لَهم نِسْبَةٌ إلَيْهِمْ بِتَسْمِيَتِهِمْ إيّاهم آلِهَةً وشُرَكاءَ لِلَّهِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، ونافِعٌ: "فَكِيدُونِي" بِإثْباتِ الياءِ في الوَصْلِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "كِيدُونِ" بِحَذْفِ الياءِ في الوَصْلِ والوَقْفِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: إذا أشْبَهَ الكَلامَ المُنْفَصِلَ أو كانَ مُنْفَصِلًا أشْبَهَ القافِيَةَ، وهم يَحْذِفُونَ الياءَ في القافِيَةِ كَثِيرًا، وقَدِ التَزَمُوا ذَلِكَ، كَما قالَ الأعْشى:
؎ فَهَلْ يَمْنَعَنِّي ارْتِيادِي البِلا ∗∗∗ دَ مِن حَذِرِ المَوْتِ أنْ يَأْتِيَنْ
وقَدْ حَذَفُوا الياءَ الَّتِي هي لامُ الأمْرِ كَما قالَ الأعْشى:
؎ يَلْمَسُ الأحْلاسَ في مَنزِلِهِ ∗∗∗ ∗∗∗ بِيَدَيْهِ كاليَهُودِيِّ المُصَلْ
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تُنْظِرُونِ﴾ أيْ لا تُؤَخِّرُونِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠].
(p-١١٥)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ ولِيِّيَ اللهُ﴾ الآيَةُ، لَمّا أحالَهم عَلى الِاسْتِنْجادِ بِآلِهَتِهِمْ في ضُرِّهِ وأراهم أنَّ اللهَ هو القادِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لا تِلْكَ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِالِاسْتِنادِ إلى اللهِ والتَوَكُّلِ عَلَيْهِ بِأنَّهُ ولِيُّهُ وناصِرُهُ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ والقَرَأةُ: "إنَّ ولِيِّيَ اللهُ" بِياءٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ وأُخْرى مَفْتُوحَةٍ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو فِيما رُوِيَ عنهُ: "إنَّ ولِيَّ اللهُ" بِياءٍ واحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ ورَفْعِ "اللهُ"، قالَ أبُو عَلِيٍّ: لا تَخْلُو هَذِهِ القِراءَةُ مِن أنْ تُدْغَمَ الياءُ الَّتِي هي لامُ الفِعْلِ في ياءِ الإضافَةِ، أو تُحْذَفَ الياءُ الَّتِي هي لامُ الفِعْلِ وتُدْغَمَ ياءُ فَعِيلٍ في ياءِ الإضافَةِ، ولا يَجُوزُ أنْ تُدْغَمَ الياءُ الَّتِي هي لامُ الفِعْلِ في ياءِ الإضافَةِ لِأنَّهُ إذا فَعَلَ ذَلِكَ انْفَكَّ الإدْغامُ الأوَّلُ، فَلَيْسَ إلّا أنَّهُ حَذَفَ لامَ الفِعْلِ وأدْغَمَ ياءَ فَعِيلٍ في ياءِ الإضافَةِ.
وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ "الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ بِالحَقِّ وهو يَتَوَلّى الصالِحِينَ"، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ -فِيما ذَكَرَ أبُو عَمْرٍو الدانِي -: "إنَّ ولِيَّ اللهِ" عَلى الإضافَةِ، وفَسَّرَ ذَلِكَ بِأنَّ المُرادَ جِبْرِيلُ ﷺ، ذَكَرَ القِراءَةَ غَيْرَ مَنسُوبَةٍ أبُو حاتِمٍ وضَعَّفَها، وإنْ كانَتْ ألْفاظُ هَذِهِ الآيَةِ تُلائِمُ هَذا المَعْنى وتَصْلُحُ لَهُ، فَإنَّ ما قَبْلَها وما بَعْدَها يَدْفَعُ ذَلِكَ.
{"ayahs_start":194,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ","أَلَهُمۡ أَرۡجُلࣱ یَمۡشُونَ بِهَاۤۖ أَمۡ لَهُمۡ أَیۡدࣲ یَبۡطِشُونَ بِهَاۤۖ أَمۡ لَهُمۡ أَعۡیُنࣱ یُبۡصِرُونَ بِهَاۤۖ أَمۡ لَهُمۡ ءَاذَانࣱ یَسۡمَعُونَ بِهَاۗ قُلِ ٱدۡعُوا۟ شُرَكَاۤءَكُمۡ ثُمَّ كِیدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ","إِنَّ وَلِـِّۧیَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی نَزَّلَ ٱلۡكِتَـٰبَۖ وَهُوَ یَتَوَلَّى ٱلصَّـٰلِحِینَ"],"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق