الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فَلَمّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ﴾ ﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهم نَصْرًا ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ﴾ ﴿وَإنْ تَدْعُوهم إلى الهُدى لا يَتَّبِعُوكم سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾
يُقالُ: إنَّ الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ هي في آدَمَ وحَوّاءَ، وإنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: "ءاتاهُما" عائِدٌ عَلَيْهِما، ويُقالُ: إنَّ الشِرْكَ الَّذِي جَعَلاهُ هو في الطاعَةِ، أيْ أطاعا إبْلِيسَ في التَسْمِيَةِ بِعَبْدِ الحارِثِ، لَكِنَّهُما كانا في غَيْرِ ذَلِكَ مُطِيعَيْنِ لِلَّهِ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ في ذَلِكَ حَدِيثًا مِن طَرِيقِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الشِرْكُ في أنْ جَعَلا عُبُودِيَّتَهُ (p-١١٠)بِالِاسْمِ لِغَيْرِهِ، وقالَ الطَبَرِيُّ والسُدِّيُّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَعالى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾: إنَّهُ كَلامٌ مُنْفَصِلٌ لَيْسَ مِنَ الأوَّلِ، وإنَّ خَبَرَ آدَمَ وحَوّاءَ تَمَّ في قَوْلِهِ: ﴿فِيما آتاهُما﴾، وإنَّ هَذا كَلامٌ يُرادُ بِهِ مُشْرِكُو العَرَبِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا تَحَكُّمٌ لا يُساعِدُهُ اللَفْظُ، ويَتَّجِهُ أنْ يُقالَ: تَعالى اللهُ عن ذَلِكَ اليَسِيرِ المُتَوَهَّمِ مِنَ الشِرْكِ في عُبُودِيَّةِ الِاسْمِ، ويَبْقى الكَلامُ في جِهَةِ أبَوَيْنا آدَمَ وحَوّاءَ عَلَيْهِما السَلامُ، وجاءَ الضَمِيرُ في "يُشْرِكُونَ" ضَمِيرَ جَمْعٍ لِأنَّ إبْلِيسَ مُدَبِّرٌ مَعَهُما تَسْمِيَةَ الوَلَدِ عَبْدَ الحارِثِ، ومَن قالَ: "إنَّ الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ إنَّما الغَرَضُ مِنها تَعْدِيدُ النِعْمَةِ في الأزْواجِ وفي تَسْهِيلِ النَسْلِ والوِلادَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُوءَ فِعْلِ المُشْرِكِينَ بِعَقِبِ ذَلِكَ"، قالَ في الآيَةِ الأخِيرَةِ: إنَّها عَلى ذَلِكَ الأُسْلُوبِ، وإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَتَعالى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ المُرادُ بِالضَمِيرِ فِيهِ: المُشْرِكُونَ، والمَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ: فَلَمّا آتى اللهُ هَذَيْنِ الإنْسانَيْنِ صالِحًا أيْ سَلِيمًا ذَهَبا بِهِ إلى الكُفْرِ، وجَعَلا لِلَّهِ فِيهِ شُرَكاءَ، وأخْرَجاهُ عَنِ الفِطْرَةِ. ولَفْظَةُ الشِرْكِ تَقْتَضِي نَصِيبَيْنِ، فالمَعْنى: وجَعَلا لِلَّهِ فِيهِ ذا شِرْكٍ، لِأنَّ إبْلِيسَ أو أصْنامَ المُشْرِكِينَ هي المَجْعُولَةُ، والأصْلُ أنَّ الكُلَّ لِلَّهِ تَعالى، وبِهَذا حَلَّ الزَجّاجُ اعْتِراضَ مَن قالَ: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الكَلامُ: "جَعَلا لِغَيْرِهِ شِرْكًا".
وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ -: "شِرْكًا" بِكَسْرِ الشِينِ وسُكُونِ الراءِ عَلى المَصْدَرِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وأبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ، وعِكْرِمَةَ، ومُجاهِدٍ، وعاصِمٍ، وأبانِ بْنِ تَغْلِبَ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ "شُرَكاءَ" عَلى الجَمْعِ، وهي بَيِّنَةٌ عَلى هَذا التَأْوِيلِ الأخِيرِ، وقَلِقَةٌ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: "إنَّ الآيَةَ الأُولى في آدَمَ وحَوّاءَ"، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ ابْنِ كَعْبٍ: "فَلَمّا آتاهُما صالِحًا أشْرَكا فِيهِ"، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ في قَصَصِ آدَمَ وحَوّاءَ وإبْلِيسَ في التَسْمِيَةِ بِعَبْدِ الحارِثِ، وفي صُورَةِ مُخاطَبَتِهِمْ أشْياءَ طَوِيلَةً لا يَقْتَضِي الِاخْتِصارُ ذِكْرُها.
(p-١١١)وَقَرَأ نافِعٌ، والحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ: "عَمّا يُشْرِكُونَ أيُشْرِكُونَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ فِيهِما، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ: "عَمّا تُشْرِكُونَ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، "أتُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ" الآيَةُ، ورَوى بَعْضُ مَن قالَ: "إنَّ الآياتِ في آدَمَ وحَوّاءَ" أنَّ إبْلِيسَ جاءَ إلى آدَمَ وقَدْ ماتَ لَهُ ولَدٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللهِ فَقالَ: إنْ شِئْتَ أنْ يَعِيشَ لَكَ الوَلَدُ فَسَمِّهِ عَبَدَ شَمْسٍ، فَوُلِدَ لَهُ ولَدٌ فَسَمّاهُ كَذَلِكَ، وإيّاهُ عَنى بِقَوْلِهِ: ﴿أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا﴾، ﴿وَهم يُخْلَقُونَ﴾ -عَلى هَذا- عائِدٌ عَلى آدَمَ وحَوّاءَ والِابْنِ المُسَمّى عَبَدَ شَمْسٍ، ومَن قالَ بِالقَوْلِ الآخَرِ قالَ: إنَّ هَذِهِ في مُشْرِكِي الكُفّارِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ الأصْنامَ في العِبادَةِ، وإيّاها أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ما لا يَخْلُقُ﴾، وعَبَّرَ عنها بِـ"هُمْ" كَأنَّها تَعْقِلُ عَلى اعْتِقادِ الكُفّارِ فِيها وبِحَسَبِ أسْمائِها. و﴿يُخْلَقُونَ﴾ مَعْناهُ: يُنْحَتُونَ ويُصْنَعُونَ، ويَحْتَمِلُ -عَلى قِراءَةِ "أيُشْرِكُونَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ- أنْ يَكُونَ المَعْنى: وهَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ يُخْلَقُونَ، أيْ: كانَ يَجِبُ أنْ يَعْتَبِرُوا بِأنَّهم مَخْلُوقُونَ فَيَجْعَلُونَ إلَهَهم خالِقَهم لا مَن لا يَخْلُقُ شَيْئًا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ الآيَةُ، هَذِهِ تُخَرَّجُ عَلى تَأْوِيلِ مَن قالَ: "إنَّ المُرادَ آدَمُ وحَوّاءُ والشَمْسُ" عَلى ما تَقَدَّمَ، ولَكِنْ بِقَلَقٍ وتَعَسُّفٍ مِنَ المُتَأوِّلِ في المَعْنى، وإنَّما تَتَّسِقُ هَذِهِ الآياتُ ويَرُوقُ نَظْمُها ويَتَناصَرُ مَعْناها عَلى التَأْوِيلِ الآخَرِ، والمَعْنى: ولا يَنْصُرُونَ أنْفُسَهم مِن أمْرِ اللهِ وإرادَتِهِ، ومَن لا يَدْفَعُ عن نَفْسِهِ فَأحْرى ألّا يَدْفَعَ عن غَيْرِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تَدْعُوهم إلى الهُدى﴾ الآيَةُ، مَن قالَ: "إنَّ الآياتِ في آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ" قالَ: إنَّ هَذِهِ مُخاطَبَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ وأُمَّتِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ في أمْرِ الكُفّارِ المُعاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، ولَهُمُ الهاءُ والمِيمُ مِن "تَدْعُوهُمْ"، ومَن قالَ بِالقَوْلِ الآخَرِ قالَ: إنَّ هَذِهِ مُخاطَبَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ والكُفّارِ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ "يُشْرِكُونَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ، ولِلْكَفّارِ فَقَطْ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِالتاءِ مِن فَوْقٍ عَلى جِهَةِ التَوْقِيفِ، أيْ: إنَّ هَذِهِ حالُ الأصْنامِ مَعَكم إنْ دَعَوْتُمُوهم لَمْ يُجِيبُوكُمْ، إذْ لَيْسَ لَهم حَواسُّ ولا إدْراكاتٌ.
وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ: "لا يَتْبَعُوكُمْ" بِسُكُونِ التاءِ وفَتْحِ الباءِ، وقَرَأ الباقُونَ: "لا يَتَّبِعُوكُمْ" بِشَدِّ التاءِ المَفْتُوحَةِ وكَسْرِ الباءِ، والمَعْنى واحِدٌ.
(p-١١٢)وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ﴾ عَطَفَ الِاسْمَ عَلى الفِعْلِ، إذِ التَقْدِيرُ: أمْ صَمَتُّمْ. ومِثْلُ هَذا قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ سَواءٌ عَلَيْكَ النَقْرُ أمْ بِتَّ لَيْلَةً ∗∗∗ بِأهْلِ القِبابِ مِن نُمَيْرِ بْنِ عامِرِ
{"ayahs_start":190,"ayahs":["فَلَمَّاۤ ءَاتَىٰهُمَا صَـٰلِحࣰا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَاۤءَ فِیمَاۤ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا یُشۡرِكُونَ","أَیُشۡرِكُونَ مَا لَا یَخۡلُقُ شَیۡـࣰٔا وَهُمۡ یُخۡلَقُونَ","وَلَا یَسۡتَطِیعُونَ لَهُمۡ نَصۡرࣰا وَلَاۤ أَنفُسَهُمۡ یَنصُرُونَ","وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ لَا یَتَّبِعُوكُمۡۚ سَوَاۤءٌ عَلَیۡكُمۡ أَدَعَوۡتُمُوهُمۡ أَمۡ أَنتُمۡ صَـٰمِتُونَ"],"ayah":"وَلَا یَسۡتَطِیعُونَ لَهُمۡ نَصۡرࣰا وَلَاۤ أَنفُسَهُمۡ یَنصُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











