الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلا ما شاءَ اللهُ ولَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السُوءُ إنْ أنا إلا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وجَعَلَ مِنها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إلَيْها فَلَمّا تَغَشّاها حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّا أثْقَلَتْ دَعَوا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِن الشاكِرِينَ﴾ هَذا أمْرٌ في أنْ يُبالِغَ في الِاسْتِسْلامِ ويَتَجَرَّدَ مِنَ المُشارَكَةِ في قُدْرَةِ اللهِ وغَيْبِهِ، وأنْ يَصِفَ نَفْسَهُ لِهَؤُلاءِ السائِلِينَ بِصِفَةِ مَن كانَ بِها فَهو حَرِيٌّ ألّا يَعْلَمَ غَيْبًا ولا يَدَّعِيَهُ، فَأخْبَرَ أنَّهُ لا يَمْلِكُ مِن مَنافِعِ نَفْسِهِ ومَضارِّها إلّا ما سَنّى اللهُ لَهُ وشاءَ ويَسَّرَ، وهَذا الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ، وأخْبَرَ أنَّهُ لَوْ كانَ يَعْلَمُ الغَيْبَ لَعَمِلَ بِحَسَبِ ما يَأْتِي ولاسْتَعَدَّ لِكُلِّ شَيْءٍ اسْتِعْدادَ مَن يَعْلَمُ قَدَرَ ما يَسْتَعِدُّ لَهُ، وهَذا لَفْظُ عامٌّ في كُلِّ شَيْءٍ، وقَدْ خَصَّصَ الناسُ هَذا فَقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، ومُجاهِدٌ: لَوْ كُنْتُ أعْلَمُ أجْلِي لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ العَمَلِ (p-١٠٧)الصالِحِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: أوقاتُ النَصْرِ لَتَوَخِيَتِها، وحَكى مَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ مَعْنى: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أعْلَمُ﴾ السَنَةَ المُجْدِبَةَ لَأعْدَدْتُ لَها مِنَ المُخْصِبَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وألْفاظُ الآيَةِ تَعُمُّ هَذا وغَيْرَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما مَسَّنِيَ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ وبِكِلَيْهِما قِيلَ؛ أحَدُهُما: أنَّ "ما" مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لاسْتَكْثَرْتُ﴾ أيْ: ولَما مَسَّنِيَ السُوءُ. والثانِي: أنْ يَكُونَ الكَلامُ مَقْطُوعًا تَمَّ في قَوْلِهِ: ﴿لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ﴾ وابْتَدَأ يُخْبِرُ بِنَفْيِ السُوءِ عنهُ وهو الجُنُونُ الَّذِي رَمَوْهُ بِهِ. قالَ المُؤَرِّجُ السَدُوسِيُّ:السُوءُ: الجُنُونُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، ثُمَّ أخْبَرَ بِجُمْلَةِ ما هو عَلَيْهِ مِنَ النِذارَةِ والبِشارَةِ. و﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يُرِيدَ أنَّهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُطْلَبُ مِنهُمُ الإيمانُ ويُدْعَوْنَ إلَيْهِ وهَؤُلاءِ الناسُ أجْمَعُ، والثانِي: أنْ يُخْبِرَ أنَّهُ نَذِيرٌ ويَتِمَّ الكَلامُ، ثُمَّ يَبْتَدِئَ يُخْبِرُ أنَّهُ بَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَفي هَذا وعْدٌ لِمَن حَصَلَ إيمانُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ الآيَةُ. قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: المُرادُ بِالنَفْسِ الواحِدَةِ آدَمُ عَلَيْهِ السَلامُ، وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنها زَوْجَها﴾ حَوّاءُ، وقَوْلُهُ: "مِنها" يُرِيدُ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن أنَّ آدَمَ نامَ فاسْتُخْرِجَتْ قُصْرى أضْلاعِهِ وخُلِقَتْ مِنها حَوّاءُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَسْكُنَ إلَيْها﴾ أيْ: لِيَأْنَسَ ويَطْمَئِنَّ، وكانَ هَذا كُلُّهُ في الجَنَّةِ. ثُمَّ ابْتَدَأ بِحالَةٍ أُخْرى هي في الدُنْيا بَعْدَ هُبُوطِها، فَقالَ: ﴿فَلَمّا تَغَشّاها﴾ أيْ غَشِيَها وهي كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ، والحَمْلُ الخَفِيفُ هو المَنِيُّ الَّذِي تَحْمِلُهُ المَرْأةُ في فَرْجِها، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "حَمْلًا" بِفَتْحِ الحاءِ، وقَرَأ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: "حِمْلًا" بِكَسْرِ الحاءِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ أيِ اسْتَمَرَّتْ بِهِ، قالَ (p-١٠٨)أيُّوبُ: سَألْتُ الحَسَنَ عن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ فَقالَ: لَوْ كُنْتَ امْرَأً عَرَبِيًّا لَعَرَفْتَ ما هِيَ، إنَّما المَعْنى: فاسْتَمَرَّتْ بِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدَّرَهُ قَوْمٌ عَلى القَلْبِ كَأنَّ المُرادَ: فاسْتَمَرَّ بِها، كَما تَقُولُ: أدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي، وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما -فِيما ذَكَرَ النَقّاشُ -: "فَمَرَتْ بِهِ" بِتَخْفِيفِ الراءِ، ومَعْناهُ: فَشَكَّتْ فِيما أصابَها هَلْ هو حَمْلٌ أو مَرَضٌ ونَحْوُ هَذا، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: "فاسْتَمَرَّتْ بِهِ"، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "فاسْتَمَرَّتْ بِحَمْلِها"، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ: "فَمارَتْ بِهِ" ومَعْناهُ: أيْ جاءَتْ بِهِ وذَهَبَتْ وتَصَرَّفَتْ، كَما تَقُولُ: مارَتِ الرِيحُ مَوْرًا، و"أثْقَلَتْ" دَخَلَتْ في الثِقْلِ، كَما تَقُولُ: أصْبَحَ وأمْسى، أيْ: صارَتْ ذاتَ ثِقْلٍ، كَما تَقُولُ: أتْمَرَ الرَجُلُ وألْبَنَ إذا صارَ ذا تَمْرٍ ولَبَنٍ، والضَمِيرُ في "دَعَوا" يَعُودُ عَلى آدَمَ وحَوّاءَ. ورُوِيَ في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ حَوّاءَ لَمّا حَمَلَتْ أوَّلَ حَمْلٍ لَمْ تَدْرِ ما هُوَ، وهَذا يُقَوِّي قِراءَةَ مَن قَرَأ "فَمَرَتْ بِهِ" بِتَخْفِيفِ الراءِ فَجَزِعَتْ لِذَلِكَ فَوَجَدَ إبْلِيسُ إلَيْها السَبِيلَ، فَقالَ لَها: ما يُدْرِيكِ ما في جَوْفِكِ؟ ولَعَلَّهُ خِنْزِيرٌ أو حَيَّةٌ أو بَهِيمَةٌ في الجُمْلَةِ، وما يُدْرِيكِ مِن أيْنَ يَخْرُجُ؟ أيَنْشَقُّ لَهُ بَطْنُكِ فَتَمُوتِينَ أو مِن فَمِكِ أو مِن أنْفِكِ؟ ولَكِنْ إنْ أطَعْتِنِي وسَمَّيْتِهِ عَبْدَ الحارِثِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: "والحارِثُ اسْمُ إبْلِيسَ"، فَسَأُخَلِّصُهُ لَكِ وأجْعَلُهُ بَشَرًا مِثْلَكِ، وإنْ أنْتِ لَمْ تَفْعَلِي قَتَلْتُهُ لَكِ، قالَ: فَأخْبَرَتْ حَوّاءُ آدَمَ، فَقالَ لَها: ذَلِكَ صاحِبُنا الَّذِي أغْوانا في الجَنَّةِ، لا نُطِيعُهُ، فَلَمّا ولَدَتْ سَمَّياهُ عَبْدَ اللهِ، فَماتَ الغُلامُ، ويُرْوى أنَّ اللهَ سَلَّطَ إبْلِيسَ عَلى قَتْلِهِ، فَحَمَلَتْ بِآخَرَ فَفَعَلَ بِها مِثْلَ ذَلِكَ، فَحَمَلَتْ بِالثالِثِ، فَلَمّا ولَدَتْهُ أطاعا إبْلِيسَ فَسَمَّياهُ عَبْدَ الحارِثِ حِرْصًا عَلى حَياتِهِ، فَهَذا هو الشِرْكُ الَّذِي جَعَلا لِلَّهِ، أيْ في التَسْمِيَةِ فَقَطْ. (p-١٠٩)وَ"صالِحًا" قالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ: غُلامًا، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما -وَهُوَ الأظْهَرُ-: بَشَرًا سَوِيًّا سَلِيمًا، ونَصْبُهُ عَلى المَفْعُولِ الثانِي، وفي "المُشْكِلِ" لِمَكِّيٍّ أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ أيْ: أتْيًا صالِحًا، وقالَ قَوْمٌ: إنَّ المَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ التَبْيِينُ عن حالِ الكافِرِينَ، فَعَدَّدَ النِعَمَ الَّتِي تَعُمُّ الكافِرِينَ وغَيْرَهم مِنَ الناسِ، ثُمَّ قَرَّرَ ذَلِكَ بِفِعْلِ المُشْرِكِينَ السَيِّئِ فَقامَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ ووَجَبَ العِقابُ، وذَلِكَ أنَّهُ قالَ مُخاطِبًا لِجَمِيعِ الناسِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وجَعَلَ مِنها زَوْجَها﴾ يُرِيدُ آدَمَ وحَوّاءَ، أيْ: واسْتَمَرَّتْ حالُكم واحِدًا كَذَلِكَ، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ تَخُصُّ كُلَّ أحَدٍ بِجُزْءٍ مِنها، ثُمَّ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا تَغَشّاها﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ وصْفًا لِحالِ الناسِ واحِدًا واحِدًا، أيْ هَكَذا يَفْعَلُونَ، فَإذا آتاهُمُ اللهُ الوَلَدَ صالِحًا سَلِيمًا كَما أرادَهُ، صَرَفاهُ عَنِ الفِطْرَةِ إلى الشِرْكِ، فَهَذا فِعْلُ المُشْرِكِينَ الَّذِي قامَتِ الحُجَّةُ فِيهِ بِاقْتِرانِهِ مَعَ النِعْمَةِ العامَّةِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ -فِيما حَكى عنهُ الطَبَرِيُّ -: مَعْنى الآيَةِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ إشارَةٌ إلى الرُوحِ الَّذِي يُنْفَخُ في كُلِّ أحَدٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: أيْ: خَلَقَكم مِن جِنْسٍ واحِدٍ وجَعَلَ الإناثَ مِنهُ، ثُمَّ جاءَ قَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿فَلَمّا تَغَشّاها﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ وصْفًا لِحالِ الناسِ واحِدًا واحِدًا عَلى ما تَقَدَّمَ مِنَ التَرْتِيبِ في القَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب