الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ويَذَرُهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الساعَةِ أيّانَ مُرْساها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلا هو ثَقُلَتْ في السَماواتِ والأرْضِ لا تَأْتِيكم إلا بَغْتَةً يَسْألُونَكَ كَأنَّكَ حَفِيٌّ عنها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ ولَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ هَذا شَرْطٌ وجَوابٌ مُضَمَّنُهُ اليَأْسُ مِنهم والمَقْتُ لَهُمْ، لِأنَّ المُرادَ أنَّ هَذا قَدْ نَزَلَ بِهِمْ وأنَّهم مِثالٌ لِهَذا. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، والحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، وقَتادَةُ: "وَنَذَرُهُمْ" بِالنُونِ ورَفْعِ الراءِ، وكَذَلِكَ عاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ، ورَوى عنهُ حَفْصٌ "وَيَذَرُهُمْ" بِالياءِ والرَفْعِ، وقَرَأها أهْلُ مَكَّةَ، وهَذا عَلى إضْمارِ مُبْتَدَإٍ: "وَنَحْنُ نَذْرُهُمْ"، أو عَلى قَطْعِ الفِعْلِ واسْتِئْنافِ القَوْلِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو عَمْرٍو -فِيما ذَكَرَ أبُو حاتِمٍ - بِالياءِ والجَزْمِ، وقَرَأها كَذَلِكَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، والأعْمَشُ: "وَيَذَرْهُمْ" بِالياءِ وبِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى مَوْضِعِ الفاءِ وما بَعْدَها مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا هادِيَ لَهُ﴾ لِأنَّهُ مَوْضِعُ جَزْمٍ، ومِثْلُهُ قَوْلُ أبِي داوُدَ: ؎ فابْلُونِي بَلِيَّتَكم لَعَلِّي ∗∗∗ أُصالِحُكم وأسْتَدْرِجْ نَوِيّا (p-١٠٣)وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ أنّى سَلَكْتَ فَإنَّنِي لَكَ كاشِحٌ ∗∗∗ ∗∗∗ وعَلى انْتِقاصِكَ في الحَياةِ وأزْدَدْ قالَ أبُو عَلِيٍّ: ومِثْلُهُ في الحَمْلِ عَلى المَوْضِعِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْلا أخَّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصَّدَّقَ وأكُنْ مِنَ الصالِحِينَ﴾ [المنافقون: ١٠]، لِأنَّكَ لَوْ لَمْ تُلْحِقِ الفاءَ لَقُلْتَ "أصَّدَّقْ"، ورَوى خارِجَةُ عن نافِعٍ: "وَنَذَرْهُمْ" بِالنُونِ والجَزْمِ. والطُغْيانُ: الإفْراطُ في الشَيْءِ، وكَأنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ في غَيْرِ الصَلاحِ، والعَمَهُ: الحَيْرَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الساعَةِ﴾ الآيَةُ، قالَ قَتادَةُ بْنُ دِعامَةَ: المُرادُ: يَسْألُكَ كُفّارُ قُرَيْشٍ، وذَلِكَ أنَّ قُرَيْشًا قالَتْ: يا مُحَمَّدُ، إنّا قَرابَتُكَ فَأخْبِرْنا بِوَقْتِ الساعَةِ. قالَ (p-١٠٤)ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المُرادُ بِالآيَةِ اليَهُودُ، وذَلِكَ أنَّ جَبَلَ بْنَ أبِي قُشَيْرٍ، وسَمْوِيلَ بْنَ زَيْدٍ قالا لَهُ: إنْ كُنْتَ نَبِيًّا، فَأخْبِرْنا بِوَقْتِ الساعَةِ فَإنّا نَعْرِفُها، فَإنْ صَدَقْتَ آمَنّا بِكَ. و"الساعَةُ": القِيامَةُ، مَوْتُ كُلِّ شَيْءٍ كانَ حِينَئِذٍ حَيًّا وبَعْثُ الجَمِيعِ هو كُلُّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الساعَةِ واسْمُ القِيامَةِ. و"أيّانَ" مَعْناها: مَتى وهو سُؤالٌ عن زَمانٍ، ولِتَضَمُّنِها الوَقْتَ بُنِيَتْ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أيّانَ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وقَرَأ السُلَمِيُّ: "إيّانَ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ أصْلُها "أيَّ آنٍ" وهي مَبْنِيَّةٌ عَلى الفَتْحِ، وقالَ الشاعِرُ: ؎ أيّانَ تَقْضِي حاجَتِي أيّانا ∗∗∗ ∗∗∗ أما تَرى لِفِعْلِها إبّانا؟ قالَ أبُو الفَتْحِ: وزْنُ "أيّانَ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ: فَعْلانَ، وبِكَسْرِها: فِعْلانَ، والنُونُ فِيهِما زائِدَةٌ. ومُرْساها رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ أيّانَ، ومَذْهَبُ المُبَرِّدِ أنَّ مُرْساها مُرْتَفِعٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ ومَعْناهُ مُثْبِتُها ومُنْتَهاها، مَأْخُوذَةٌ مَن أرْسى يُرْسِي، ثُمَّ أمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِالرَدِّ إلَيْهِ والتَسْلِيمِ لِعِلْمِهِ، ويُجَلِّيها مَعْناهُ يُظْهِرُها والجَلاءُ البَيِّنَةُ والشُهُودُ وهو مُرادُ زُهَيْرٍ بِقَوْلِهِ: ؎ ..................... ∗∗∗ ∗∗∗ يَمِينٌ أو نِفارٌ أو جَلاءُ (p-١٠٥)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثَقُلَتْ في السَماواتِ والأرْضِ﴾ قالَ السُدِّيُّ، ومَعْمَرٌ عن بَعْضِ أهْلِ التَأْوِيلِ: مَعْناهُ: ثَقُلَ أنْ تَعْلَمَ ويُوقَفَ عَلى حَقِيقَةِ وقْتِها، قالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: مَعْناهُ: ثَقُلَتْ هَيْئَتُها والفَزَعُ مِنها عَلى أهْلِ السَماواتِ والأرْضِ، كَما تَقُولُ: خِيفَ العَدُوُّ في بَلَدِ كَذا وكَذا، وقالَ قَتادَةُ، وابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْناهُ: ثَقُلَتْ عَلى السَماواتِ والأرْضِ أنْفُسِها لِتَفَطُّرِ السَماواتِ وتَبَدُّلِ الأرْضِ ونَسْفِ الجِبالِ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى خَبَرًا يَدْخُلُ فِيهِ الكُلُّ: إنَّها لا تَأْتِي إلّا بَغْتَةً، أيْ فَجْأةً دُونَ أنْ يَتَقَدَّمَ مِنها عِلْمٌ بِوَقْتِها عِنْدَ أحَدٍ مِنَ الناسِ، و"بَغْتَةً" مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ كَأنَّكَ حَفِيٌّ عنها﴾ الآيَةُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ: المَعْنى: يَسْألُونَكَ عنها كَأنَّكَ حَفِيٌّ، أيْ: مُتْحَفٌ ومُهْتَبَلٌ، وهَذا يَنْحُو إلى ما قالَتْ قُرَيْشٌ: إنّا قَرابَتُكَ فَأخْبِرْنا، وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا، والضَحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ: مَعْناهُ: كَأنَّكَ حَفِيٌّ في المَسْألَةِ عنها والِاشْتِغالِ بِها حَتّى حَصَّلَتْ عِلْمَها، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما -فِيما ذَكَرَ أبُو حاتِمٍ -: "كَأنَّكَ حَفِيٌّ بِها"، لِأنَّ "حَفِيٌّ" مَعْناهُ: مُهْتَبَلٌ مُجْتَهِدٌ في السُؤالِ مُبالِغٌ في الإقْبالِ عَلى ما يُسْألُ عنهُ، وقَدْ يَجِيءُ "حَفِيٌّ" وصْفًا لِلسُّؤالِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَلَمّا التَقَيْنا بَيَّنَ السَيْفُ بَيْنَنا ∗∗∗ ∗∗∗ لِسائِلَةٍ عَنّا حَفِيُّ سُؤالُها ومِنَ المَعْنى الأوَّلِ الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ "حَفِيٌّ" وصْفًا لِلسّائِلِ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ سُؤالُ حَفِيٍّ عن أخِيهِ كَأنَّهُ ∗∗∗ ∗∗∗ بِذُكْرَتِهِ وسْنانُ أو مُتَواسِنُ (p-١٠٦)ثُمَّ أمَرَهُ ثانِيَةً بِأنْ يُسَلِّمَ لِعِلْمِهِ تَأْكِيدًا لِلْأمْرِ وتَهَمُّمًا بِهِ إذْ هو مِنَ الغُيُوبِ الخَمْسَةِ الَّتِي في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ الساعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ [لقمان: ٣٤]، وقِيلَ: العِلْمُ الأوَّلُ عِلْمُ قِيامِها والثانِي عِلْمُ كُنْهِها وحالِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ﴾، قالَ الطَبَرِيُّ: مَعْناهُ: لا يَعْلَمُونَ أنَّ هَذا الأمْرَ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللهُ، بَلْ يَظُنُّ أكْثَرُهم أنَّهُ مِمّا يَعْلَمُ البَشَرُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب