الباحث القرآني

(p-٩٠)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ولَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أو تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿ساءَ مَثَلا القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وأنْفُسَهم كانُوا يَظْلِمُونَ﴾ ﴿مَن يَهْدِ اللهُ فَهو المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: لَأخَذْناهُ، كَما تَقُولُ: "رُفِعَ الظالِمُ" إذا هَلَكَ، والضَمِيرُ في "بِها" عائِدٌ عَلى المَعْصِيَةِ في الِانْسِلاخِ، وابْتَدَأ وصْفَ حالِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ﴾ فَهي عِبارَةٌ عن إمْهالِهِ وإمْلاءِ اللهِ لَهُ، وقالَ ابْنُ أبِي نَجِيحٍ: "لَرَفَعْناهُ" مَعْناهُ: لَتَوَفَّيْناهُ قَبْلَ أنْ يَقَعَ في المَعْصِيَةِ ورَفَعْناهُ عنها، والضَمِيرُ -عَلى هَذا- عائِدٌ عَلى الآياتِ، ثُمَّ ابْتَدَأ وصْفَ حالِهِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وجَماعَةٌ مَعَهُ: "لَرَفَعْناهُ" أيْ: لَشَرَّفْنا ذِكْرَهُ ورَفَعْنا مَنزِلَتَهُ لَدَيْنا بِهَذِهِ الآياتِ الَّتِي آتَيْناهُ، ﴿وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ﴾ فالكَلامُ مُتَّصِلٌ ذُكَرَ فِيهِ السَبَبُ الَّذِي مِن أجْلِهِ لَمْ يُرْفَعْ ولَمْ يُشَرَّفْ كَما فُعِلَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ أُوتِيَ هَذا. و"أخْلَدَ" مَعْناهُ: لازَمَ وتَقاعَسَ وثَبَتَ، والمُخْلِدُ: الَّذِي يَثْبُتُ شَبابُهُ فَلا يَغْشاهُ الشَيْبُ، ومِنهُ الخُلْدُ، ومِنهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎ لِمَنِ الدِيارُ غَشِيتَها بِالفَدْفَدِ ∗∗∗ كالوَحْيِ في حَجْرِ المَسِيلِ المُخْلِدِ وقَوْلُهُ: ﴿إلى الأرْضِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: إلى شَهَواتِها ولَذّاتِها وما فِيها مِنَ المَلاذِّ، قالَهُ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِها العِبارَةَ عَنِ الأسْفَلِ والأخَسِّ، كَمّا (p-٩١)يُقالُ: فُلانٌ في الحَضِيضِ، ويَتَأيَّدُ ذَلِكَ مِن جِهَةِ المَعْنى المَعْقُولِ، وذَلِكَ أنَّ الأرْضَ وما ارْتَكَزَ فِيها هي الدُنْيا، وكُلُّ ما عَلَيْها فانٍ، مَن أخْلَدَ إلَيْهِ، فَقَدْ حُرِمَ حَظَّ الآخِرَةِ الباقِيَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ﴾ قالَ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ: إنَّ هَذا الرَجُلَ عُوقِبَ في الدُنْيا بِأنَّهُ يَلْهَثُ كَما يَلْهَثُ الكَلْبُ فَشُبِّهَ بِهِ صُورَةً وهَيْئَةً، وقالَ الجُمْهُورُ: إنَّما شُبِّهَ بِهِ في أنَّهُ كانَ ضالًّا قَبْلَ أنْ يُؤْتى الآياتِ، ثُمَّ أُوتِيَها فَكانَ أيْضًا ضالًّا لَمْ تَنْفَعْهُ الآياتُ، فَهو كالكَلْبِ في أنَّهُ لا يُفارِقُ اللهْثَ في حالِ حَمْلِ المَشَقَّةِ عَلَيْهِ وتَرْكِهِ دُونَ حَمْلٍ عَلَيْهِ، وتَحْرِيرُ المَعْنى: فالشَيْءُ الَّذِي تَتَصَوَّرُهُ النُفُوسُ مِن حالِهِ هو كالَّذِي تَتَصَوَّرُ مِن حالِ الكَلْبِ، وبِهَذا التَقْدِيرِ يَحْسُنُ دُخُولُ "الكافِ" عَلى "مَثَلٍ"، واللهْثُ: تَنَفُّسٌ بِسُرْعَةٍ وتَحَرُّكُ أعْضاءِ الفَمِ مَعَهُ، وامْتِدادُ اللِسانِ، وأكْثَرُ ما يَعْتَرِي ذَلِكَ مَعَ الحَرِّ والتَعَبِ، وهو في الفَرَسِ: ضَبْحٌ، وخِلْقَةُ الكَلْبِ أنَّهُ يَلْهَثُ عَلى كُلِّ حالٍ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّ مَعْنى: ﴿إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ﴾ أيْ تَطْرُدُهُ، وحَكاهُ عن مُجاهِدٍ وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَلِكَ داخِلٌ في جُمْلَةِ المَشَقَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ﴾ أيْ: هَذا المَثَلُ يا مُحَمَّدُ مَثَلُ هَؤُلاءِ القَوْمِ الَّذِينَ كانُوا ضالِّينَ قَبْلَ أنْ تَأْتِيَهم بِالهُدى والرِسالَةِ، ثُمَّ جِئْتَهم بِذَلِكَ فَبَقُوا عَلى ضَلالَتِهِمْ ولَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ. فَمَثَلُهم كَمَثَلِ الكَلْبِ، وقَوْلُهُ: ﴿فاقْصُصِ القَصَصَ﴾ أيِ:اسْرُدْ عَلَيْهِمْ ما يَعْلَمُونَ أنَّهُ مِنَ الغُيُوبِ الَّتِي لا يَعْلَمُها إلّا أهْلُ الكُتُبِ الماضِيَةِ ولَسْتَ مِنهم ﴿لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ في ذَلِكَ فَيُؤْمِنُونَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ساءَ مَثَلا﴾، قالَ الزَجّاجُ: التَقْدِيرُ: ساءَ مَثَلًا مَثَلُ القَوْمِ، لِأنَّ الَّذِي بَعْدَ "بِئْسَ" و"نِعْمَ" إنَّما يَتَفَسَّرُ مِن نَوْعِهِ، كَما تَقُولُ: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ، ولَمّا انْحَذَفَ "مَثَلُ" أُقِيمَ "القَوْمُ" مَقامَهُ، والرَفْعُ في ذَلِكَ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ فِيما تَقَدَّمَ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "ساءَ مَثَلُ القَوْمِ"، ورَفْعُ "مَثَلٍ" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ بِـ "ساءَ"، ولا تَجْرِي "ساءَ" مَجْرى (p-٩٢)"بِئْسَ" إلّا إذا كانَ ما بَعْدَها مَنصُوبًا، قالَ أبُو عَمْرٍو الدانِي: قَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "مِثْلُ" بِكَسْرِ المِيمِ ورَفْعِ اللامِ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "مَثَلُ" بِفَتْحِ المِيمِ ورَفْعِ اللامِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا خِلافُ ما ذَكَرَ أبُو حاتِمٍ، فَإنَّهُ قالَ: قَرَأ الجَحْدَرِيُّ، والأعْمَشُ: "ساءَ مَثَلُ" بِالرَفْعِ. وخُتِمَتْ هَذِهِ الآياتُ -الَّتِي تَضَمَّنَتْ ضَلالَ أقْوامٍ والقَوْلَ فِيهِ- بِأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن عِنْدِ اللهِ، الهِدايَةُ مِنهُ وبِخَلْقِهِ واخْتِراعِهِ، وكَذَلِكَ الإضْلالُ، وفي الآيَةِ تَعَجُّبٌ مِن حالِ المَذْكُورِينَ، ومَن أضَلَّ فَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالخُسْرانِ، والثَوابُ والعِقابُ مُتَعَلِّقٌ بِكَسْبِ ابْنِ آدَمَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ خَبَرٌ مِنَ اللهِ تَعالى أنَّهُ خَلَقَ لِسُكْنى جَهَنَّمَ والِاحْتِراقِ فِيها كَثِيرًا، وفي ضِمْنِهِ وعِيدٌ لِلْكُفّارِ. و"ذَرَأ" مَعْناهُ: خَلَقَ وأوجَدَ مَعَ بَثٍّ ونَشْرٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: اللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: "لِجَهَنَّمَ" هي لامُ العاقِبَةِ، أيْ: لِيَكُونَ أمْرُهم ومَآلُهم لِجَهَنَّمَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، ولامُ العاقِبَةِ إنَّما يُتَصَوَّرُ إذا كانَ فِعْلُ الفاعِلِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ما يَصِيرُ الأمْرُ إلَيْهِ، وهَذِهِ اللامُ مِثْلُ الَّتِي في قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ يا أمَّ فَرْوَ كُفِّي اللَوْمَ واعْتَرِفِي ∗∗∗ ∗∗∗ فَكُلُّ والِدَةٍ لِلْمُنْتَأى تَلِدُ (p-٩٣)وَأمّا هُنا فالفِعْلُ قُصِدَ بِهِ ما يَصِيرُ الأمْرُ إلَيْهِ مِن سُكْناهم جَهَنَّمَ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ قالَ: "أولادُ الزِنى مِمّا ذَرَأ اللهُ لِجَهَنَّمَ"، ثُمَّ أسْنَدَ فِيهِ حَدِيثًا مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وقَوْلُهُ تَعالى: "كَثِيرًا" وإنْ كانَ لَيْسَ بِنَصٍّ في أنَّ الكَفّارَ أكْثَرُ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَهو ناظِرٌ إلى ذَلِكَ في قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "قالَ اللهُ لِآدَمَ: أخْرِجْ بَعْثَ النارِ، فَأخْرَجَ مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعَةً وتِسْعِينَ وتِسْعَمِائَةً"».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب