الباحث القرآني
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعن أيْمانِهِمْ وعن شَمائِلِهِمْ ولا تَجِدُ أكْثَرَهم شاكِرِينَ﴾ ﴿قالَ اخْرُجْ مِنها مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَن تَبِعَكَ مِنهم لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكم أجْمَعِينَ﴾
هَذا تَوْكِيدٌ مِن إبْلِيسَ في أنَّهُ يَجِدُّ في إغْواءِ بَنِي آدَمَ؛ وهَذا لَمْ يَكُنْ؛ حَتّى عَلِمَ إبْلِيسُ (p-٥٢٦)أنَّ اللهَ تَعالى يَجْعَلُ في الأرْضِ خَلِيفَةً؛ وعَلِمَ أنَّهُ آدَمُ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وإلّا فَلا طَرِيقَ لَهُ إلى عِلْمِ أنْسالِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَلامُ - مِنَ ألْفاظِ هَذِهِ الآياتِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ومَقْصِدُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ إبْلِيسَ أخْبَرَ عن نَفْسِهِ أنَّهُ يَأْتِي لِإضْلالِ ابْنِ آدَمَ مِن كُلِّ جِهَةٍ؛ وعَلى كُلِّ طَرِيقٍ؛ يُفْسِدُ عَلَيْهِ ما أمْكَنَهُ مِن مُعْتَقَدِهِ؛ ويُنْسِيهِ صالِحَ أعْمالِ الآخِرَةِ؛ ويُغْرِيهِ بِقَبِيحِ أعْمالِ الدُنْيا؛ فَعَبَّرَ عن ذَلِكَ بِألْفاظٍ تَقْتَضِي الإحاطَةَ بِهِمْ؛ وفي اللَفْظِ تَجَوُّزٌ؛ وهَذا قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - فِيما رُوِيَ عنهُ -: أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ ؛ اَلْآخِرَةَ؛ ﴿وَمِن خَلْفِهِمْ﴾ ؛ اَلدُّنْيا؛ ﴿وَعن أيْمانِهِمْ﴾ ؛ اَلْحَقَّ؛ ﴿وَعن شَمائِلِهِمْ﴾ ؛ اَلْباطِلَ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا - فِيما رُوِيَ عنهُ -: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ ؛ هي الدُنْيا؛ ﴿وَمِن خَلْفِهِمْ﴾ ؛ هي الآخِرَةُ؛ ﴿وَعن أيْمانِهِمْ﴾ ؛ اَلْحَسَناتُ؛ ﴿وَعن شَمائِلِهِمْ﴾ ؛ اَلسَّيِّئاتُ؛ وقالَ مُجاهِدٌ: "مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ وعن أيْمانِهِمْ"؛ مَعْناهُ: حَيْثُ يُبْصِرُونَ؛ و"وَمِن خَلْفِهِمْ وعن شَمائِلِهِمْ"؛ حَيْثُ لا يُبْصِرُونَ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَجِدُ أكْثَرَهم شاكِرِينَ﴾ ؛ أخْبَرَ أنَّ سِعايَتَهُ تَفْعَلُ ذَلِكَ؛ ظَنًّا مِنهُ؛ وتَوَهُّمًا في خِلْقَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَلامُ - حِينَ رَأى خِلْقَتَهُ؛ مِن أشْياءَ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَعَلِمَ أنَّهُ سَتَكُونُ لَهم شِيَمٌ تَقْتَضِي طاعَتَهُ؛ كالغِلِّ؛ والحَسَدِ؛ والشَهَواتِ؛ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وقَتادَةُ: إلّا أنَّ إبْلِيسَ لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ يَأْتِي بَنِي آدَمَ مِن فَوْقِهِمْ؛ ولا جَعَلَ اللهُ تَعالى لَهُ سَبِيلًا إلى أنْ يَحُولَ بَيْنَهم وبَيْنَ رَحْمَةِ اللهِ تَعالى وعَفْوِهِ؛ ومَنِّهِ؛ وما ظَنَّهُ إبْلِيسُ صَدَّقَهُ اللهُ - عَزَّ وجَلَّ -؛ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوهُ إلا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [سبإ: ٢٠] ؛ فَجَعَلَ أكْثَرَ العالَمِ كَفَرَةً؛ ويُبَيِّنُهُ قَوْلُ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في الحَدِيثِ: « "يَقُولُ اللهُ - تَبارَكَ وتَعالى - يَوْمَ القِيامَةِ: (يا آدَمُ؛ أخْرِجْ بَعْثَ النارِ)؛ فَيَقُولُ: يا رَبِّ؛ وما بَعْثُ النارِ؟ فَيَقُولُ: (مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ؛ وواحِدٌ إلى الجَنَّةِ"؛ ونَحْوُهُ؛ مِمّا يَخُصُّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ "ما أنْتُمْ في الأُمَمِ إلّا كالشَعْرَةِ البَيْضاءِ في الثَوْرِ الأسْوَدِ» ".
(p-٥٢٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقَوْلُهُ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "كالشَعْرَةِ"؛ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ شَعْرَةً واحِدَةً؛ وهو بَعِيدٌ؛ لِأنَّ تَناسُبَ الحَدِيثِ الأوَّلِ يَرُدُّهُ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - الشَعْرَةَ الَّتِي هي لِلْجِنْسِ؛ والقَصْدُ أنْ يُشَبِّهَهم بِثَوْرٍ أسْوَدَ؛ قَدْ أُنْبِتَتْ في خِلالِ سَوادِهِ شَعْرَةٌ بَيْضاءُ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ اللَمْعَةَ مِنَ الشَعْرِ الأبْيَضِ؛ وهَذا فِيهِ بُعْدٌ.
وقَوْلُهُ: "شاكِرِينَ"؛ مَعْناهُ: مُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ ابْنَ آدَمَ لا يَشْكُرُ نِعْمَةَ اللهِ تَعالى إلّا بِأنْ يُؤْمِنَ؛ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - وغَيْرُهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿قالَ اخْرُجْ مِنها﴾ ؛ اَلضَّمِيرُ في "مِنها"؛ عائِدٌ عَلى الجَنَّةِ؛ و"مَذْؤُمًا"؛ مَعْناهُ: مَعِيبًا؛ يُقالُ: "ذَأمَهُ"؛ إذا عابَهُ؛ ومِنهُ "اَلذَّأمُ"؛ وهو العَيْبُ؛ وفي المَثَلِ: "لَنْ تُعْدَمَ الحَسْناءُ ذامًّا"؛ أيْ عَيْبًا؛ وسُهِّلَتْ فِيهِ الهَمْزَةُ؛ ومِنهُ قَوْلُ قَيْلِ حِمْيَرَ: "أرَدْتَ أنْ تُذِيمَهُ فَمَدَهْتَهُ"؛ يُرِيدُ: "فَمَدَحْتَهُ"؛ وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّهُ يُرْوى هَذا البَيْتُ:
؎ صَحِبْتُكَ إذْ عَيْنِي عَلَيْها غِشاوَةٌ ∗∗∗ فَلَمّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أذِيمُها
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والرِوايَةُ المَشْهُورَةُ: "ألُومُها"؛ ومِنَ الشاهِدِ في اللَفْظِ قَوْلُ الكُمَيْتِ:(p-٥٢٨)
؎ وهُمُ الأقْرَبُونَ مِن كُلِّ خَيْرٍ ∗∗∗ ∗∗∗ وهُمُ الأبْعَدُونَ مِن كُلِّ ذامِ
ومِنَ الشاهِدِ في "مَدْحُورًا"؛ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ ودَحَرْتُ بَنِي الحُصَيْبِ إلى قَدِيدٍ ∗∗∗ ∗∗∗ وقَدْ كانُوا ذَوِي أشَرٍ وفَخْرِ
وقَرَأ الزُهْرِيُّ ؛ وأبُو جَعْفَرٍ ؛ والأعْمَشُ ؛ في هَذِهِ الآيَةِ: "مَذُومًا"؛ عَلى التَسْهِيلِ؛ و"مَدْحُورًا"؛ مَعْناهُ: مَقْصِيًّا مُبْعَدًا؛ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لَمَن تَبِعَكَ"؛ بِفَتْحِ اللامِ؛ وهي عَلى هَذِهِ لامُ القَسَمِ؛ المُخْرِجَةُ الكَلامَ مِنَ الشَكِّ إلى القَسَمِ؛ وقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ؛ والأعْمَشُ: "لِمَن تَبِعَكَ"؛ بِكَسْرِ اللامِ؛ والمَعْنى: "لِأجْلِ مَن تَبِعَكَ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكم أجْمَعِينَ"؛ فَأدْخَلَهُ في الوَعِيدِ مَعَهُمْ؛ بِحُكْمِ هَذِهِ الكافِ في "مِنكُمْ".
{"ayahs_start":17,"ayahs":["ثُمَّ لَـَٔاتِیَنَّهُم مِّنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَیۡمَـٰنِهِمۡ وَعَن شَمَاۤىِٕلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ","قَالَ ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومࣰا مَّدۡحُورࣰاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِینَ"],"ayah":"ثُمَّ لَـَٔاتِیَنَّهُم مِّنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَیۡمَـٰنِهِمۡ وَعَن شَمَاۤىِٕلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق