الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ القَرْيَةَ وكُلُوا مِنها حَيْثُ شِئْتُمْ وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكم خَطِيئاتِكم سَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ﴾ ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهم قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهم فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ﴾ ﴿واسْألْهم عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ في السَبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهم يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا ويَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ والمَعْنى: واذْكُرْ إذْ قِيلَ لَهُمْ، والمُرادُ مَن سَلَفَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وذَلِكَ أنَّهم لَمّا خَرَجُوا مِنَ التِيهِ قِيلَ لَهُمُ:اسْكُنُوا هَذِهِ القَرْيَةَ، والقَرْيَةُ في كَلامِ العَرَبِ: المَدِينَةُ مُجْتَمَعُ المَنازِلِ، والإشارَةُ هُنا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ. قالَهُ الطَبَرِيُّ. وقِيلَ: إلى أرِيحا، و﴿حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ أيْ: هي ونِعَمُها لَكم مُباحَةٌ. وقَرَأ السَبْعَةُ، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُمْ: "حِطَّةٌ" بِالرَفْعِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "حِطَّةً" بِالنَصْبِ، الرَفْعُ عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ تَقْدِيرُهُ: طَلَبُنا (p-٦٩)حِطَّةٌ، والنَصْبُ عَلى المَصْدَرِ، أيْ حُطَّ ذُنُوبَنا حِطَّةً، وهَذا عَلى أنْ يُكَلِّفُوا قَوْلَ لَفْظَةٍ مَعْناها: حِطَّةٌ. وقَدْ قالَ قَوْمٌ: كُلِّفُوا قَوْلًا حَسَنًا مُضَمَّنُهُ الإيمانُ وشُكْرُ اللهِ لِيَكُونَ حِطَّةً لِذُنُوبِهِمْ، فالكَلامُ -عَلى هَذا- كَقَوْلِكَ: قُلْ خَيْرًا. وتَوْفِيَةُ هَذا مَذْكُورٌ في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "نَغْفِرْ" بِالنُونِ "لَكم خَطِيئاتِكُمْ" بِالتاءِ مَهْمُوزًا عَلى الجَمْعِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "نَغْفِرْ" بِالنُونِ "لَكم خَطاياكُمْ" نَحْوُ "قَضاياكُمْ"، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ والأعْمَشُ، وقَرَأ نافِعٌ: "تُغْفَرْ" بِتاءٍ مَضْمُومَةٍ "لَكم خَطِيئاتُكُمْ" بِالهَمْزِ وضَمِّ التاءِ عَلى الجَمْعِ، ورَواها مَحْبُوبٌ عن أبِي عَمْرٍو. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "تُغْفَرْ" بِتاءٍ مَضْمُومَةٍ "لَكم خَطِيئَتُكُمْ" واحِدَةً مَهْمُوزَةً مَرْفُوعَةً، قالَ أبُو حاتِمٍ: وقَرَأها الأعْرَجُ وفِرْقَةٌ "تَغْفِرْ" بِالتاءِ وفَتَحَها عَلى مَعْنى أنَّ الحِطَّةَ تَغْفِرُ إذْ هي سَبَبُ الغُفْرانِ. و"بَدَّلَ" مَعْناهُ: غَيَّرَ اللَفْظَ دُونَ أنْ يَذْهَبَ بِجَمِيعِهِ، وأبْدَلَ: إذا ذَهَبَ بِهِ وجاءَ بِلَفْظٍ آخَرَ، والإشارَةُ بِالقَوْلِ إلى قَوْلِ بَنِي إسْرائِيلَ: "حَبَّةٌ في شَعْرَةٍ أو حِنْطَةٌ في شُعَيْرَةٍ"، والرِجْزِ الَّذِي أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ: طاعُونٌ، يُقالُ: ماتَ مِنهُ في يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفًا، وتَقَدَّمَ أيْضًا اسْتِيعابُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْألْهم عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ﴾ الآيَةُ، قالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: إنَّ اليَهُودَ المُعارِضِينَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ قالُوا: إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عِصْيانٌ ولا مُعانَدَةٌ لِما أمَرُوا بِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُوَبِّخَةً لَهم ومُقَرِّرَةً ما كانَ مِن فِعْلِ أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ، فَسُؤالُهم إنَّما كانَ عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ، والقَرْيَةُ هُنا: مَدْيَنُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وقِيلَ: أيْلَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ، وعِكْرِمَةُ، والسُدِّيُّ، والثَوْرِيُّ. وقالَ قَتادَةُ هي "مُقْنا" بِالقافِ ساكِنَةً، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ هي مَقْناةُ (p-٧٠)ساحِلُ مَدْيَنَ، ويُقالُ فِيها مَغْنى بِالغَيْنِ مَفْتُوحَةً ونُونٍ مُشَدَّدَةً، وقِيلَ: هي طَبَرِيَّةُ، قالَهُ الزُهْرِيُّ، و"حاضِرَةَ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ مَعْنى الحُضُورِ" أيِ:البَحْرُ فِيها حاضِرٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ مَعْنى الحَضارَةِ عَلى جِهَةِ التَعْظِيمِ لَها، أيْ هي الحاضِرَةُ في مُدُنِ البَحْرِ. و"إذْ يَعْدُونَ" مَعْناهُ: يُخالِفُونَ الشَرْعَ، مِن عَدا يَعْدُو. وقَرَأ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وأبُو نُهَيْكٍ: "يَعَدُّونَ"، قالَ أبُو الفَتْحِ: أرادَ "يَعْتَدُونَ" فَأسْكَنِ التاءَ لِيُدْغِمَها في الدالِ، ونَقَلَ فَتْحَها إلى العَيْنِ فَصارَ "يَعَدُّونَ" بِفَتْحِ العَيْنِ وشَدِّ الدالِ المَضْمُومَةِ، والِاعْتِداءُ مِنهم في السَبْتِ هو نَفْسُ العَمَلِ والِاشْتِغالِ كانَ صَيْدًا أو غَيْرَهُ، إلّا أنَّهُ كانَ في هَذِهِ النازِلَةِ بِالصَيْدِ، وكانَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ ابْتَلاهم في أمْرِ الحُوتِ بِأنْ يَغِيبَ عنهم سائِرَ الجُمْعَةِ فَإذا كانَ يَوْمُ السَبْتِ جاءَهم في الماءِ شارِعًا، أيْ مُقْبِلًا إلَيْهِمْ مُصْطَفًّا، كَما تَقُولُ: أُشْرِعَتِ الرِماحُ إذا مُدَّتْ مُصْطَفَّةً، وهَذا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ مِنَ الحُوتِ بِإرْسالٍ مِنَ اللهِ كَإرْسالِ السَحابِ، أو بِوَحْيٍ وإلْهامٍ كالوَحْيِ إلى النَحْلِ، أو بِإشْعارٍ في ذَلِكَ اليَوْمِ عَلى نَحْوِ ما يُشْعِرُ اللهُ الدَوابَّ يَوْمَ الجُمْعَةِ بِأمْرِ الساعَةِ حَسَبَما يَقْتَضِيهِ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "ما مِن دابَّةٍ إلّا وهي مُصِيخَةٌ يَوْمَ الجُمْعَةِ حَتّى تَطْلُعَ الشَمْسُ فَرَقًا مِنَ الساعَةِ"»، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الحُوتِ شُعُورًا بِالسَلامَةِ في ذَلِكَ اليَوْمِ عَلى نَحْوِ شُعُورِ حَمامِ الحَرَمِ بِالسَلامَةِ. قالَ رُواةُ هَذا القَصَصِ: فَيَقْرُبُ الحُوتُ ويَكْثُرُ حَتّى يُمْكِنَ أخْذُهُ بِاليَدِ، فَإذا كانَ لَيْلَةَ الأحَدِ غابَ بِجُمْلَتِهِ، وقِيلَ: غابَتْ كَثْرَتُهُ ولَمْ يَبْقَ مِنهُ إلّا القَلِيلُ الَّذِي يُتْعِبُ صَيْدُهُ، قالَ قَتادَةُ: فَفَتَنَهم ذَلِكَ وأضَرَّ بِهِمْ فَتَطَرَّقُوا إلى المَعْصِيَةِ بِأنْ حَفَرُوا حُفَرًا يَخْرُجُ إلَيْها ماءُ البَحْرِ عَلى أُخْدُودٍ، فَإذا جاءَ الحُوتُ يَوْمَ السَبْتِ وحَصَلَ في الحُفْرَةِ ألْقَوْا في الأُخْدُودِ حَجَرًا فَمَنَعُوهُ الخُرُوجَ إلى البَحْرِ فَإذا كانَ الأحَدُ أخَذُوهُ، فَكانَ هَذا أوَّلَ التَطَرُّقِ. ورَوى أشْهَبُ عن مالِكٍ قالَ: زَعَمَ ابْنُ رُومانَ أنَّهم كانُوا يَأْخُذُ الرَجُلُ خَيْطًا ويَصْنَعُ فِيهِ وهْقَةً وألْقاها في ذَنَبِ الحُوتِ، وفي الطَرَفِ الآخَرِ مِنَ الخَيْطِ وتَدٌ مَضْرُوبٌ، وتَرَكَهُ كَذَلِكَ إلى الأحَدِ، ثُمَّ تَطَرَّقَ الناسُ حِينَ رَأوا مَن صَنَعَ هَذا لا يُبْتَلى حَتّى كَثُرَ (p-٧١)صَيْدُ الحُوتِ ومُشِيَ بِهِ في الأسْواقِ، وأعْلَنَ الفَسَقَةُ بِصَيْدِهِ وقالُوا: ذَهَبَتْ حُرْمَةُ السَبْتِ، فَنَهَضَتْ فِرْقَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ ونَهَتْ وجاهَرَتْ بِالنَهْيِ واعْتَزَلَتْ، والعامِلُ في قَوْلِهِ: "وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ" قَوْلُهُ: "لا تَأْتِيهِمْ" وهو ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: "حِيتانُهم يَوْمَ إسْباتِهِمْ"، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، والحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، والناسُ: "يَسْبِتُونَ" بِكَسْرِ الباءِ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ، وعاصِمٌ بِخِلافٍ: "يَسْبُتُونَ" بِضَمِّها، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وعاصِمٌ بِخِلافٍ "يُسْبِتُونَ" مِن أسَبَتَ إذا دَخَلَ في السَبْتِ. ومَعْنى قَوْلِهِ: "كَذَلِكَ" الإشارَةُ إلى أمْرِ الحُوتِ وفِتْنَتِهِمْ بِهِ، هَذا عَلى مَن وقَفَ عَلى "تَأْتِيهِمْ"، ومَن وقَفَ عَلى "كَذَلِكَ" فالإشارَةُ إلى كَثْرَةِ الحِيتانِ شُرَّعًا، أيْ: فَما أتى مِنها فَهو قَلِيلٌ، و"نَبْلُوهُمْ" أيْ نَمْتَحِنُهم لِفِسْقِهِمْ وعِصْيانِهِمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ رِوايَةٌ وتَطْوِيلٌ اخْتَصَرْتُهُ واقْتَصَرْتُ مِنهُ عَلى ما لا تُفْهَمُ ألْفاظُ الآيَةِ إلّا بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب