الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَمّا سَكَتَ عن مُوسى الغَضَبُ أخَذَ الألْواحَ وفي نُسْخَتِها هُدًى ورَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هم لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ ﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقاتِنا فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرَجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهم مِن قَبْلُ وإيّايَ أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُفَهاءُ مِنّا إنْ هي إلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مِن تَشاءُ وتَهْدِي مِن تَشاءُ أنْتَ ولِيُّنا فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ﴾ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا سَكَنَ غَضَبُهُ أخَذَ الألْواحَ الَّتِي كانَ ألْقى، وقَدْ تَقَدَّمَ ما رُوِيَ أنَّهُ رُفِعَ أكْثَرُها أو ذَهَبَ في التَكَسُّرِ، وقَوْلُهُ: ﴿سَكَتَ﴾ لَفْظَةٌ مُسْتَعارَةٌ، شَبَّهَ خُمُودَ الغَضَبِ بِانْقِطاعِ كَلامِ المُتَكَلِّمِ وهو سُكُوتُهُ، قالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: تَقُولُ العَرَبُ: "سالَ الوادِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ سَكَتَ"، وقالَ الزَجّاجُ وغَيْرُهُ: مَصْدَرُ (p-٥٦)قَوْلِكَ: "سَكَتَ الغَضَبُ": سَكْتٌ، ومَصْدَرُ قَوْلِكَ: "سَكَتَ الرَجُلُ": سُكُوتٌ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ فِعْلٌ عَلى حِدَةٍ ولَيْسَ مِن سُكُوتِ الناسِ، وقِيلَ: إنَّ في المَعْنى قَلْبًا، والمُرادُ: ولَمّا سَكَتَ مُوسى عَنِ الغَضَبِ، فَهو مِن بابِ: أدْخَلْتُ فَمِي في الحَجَرِ، وأدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي، وفي هَذا أيْضًا اسْتِعارَةٌ، إذِ الغَضَبُ لَيْسَ يَتَكَلَّمُ فَيُوصَفُ بِالسُكُوتِ، وقَرَأ مُعاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: "وَلَمّا سَكَنَ"، وفي مُصْحَفِ حَفْصَةَ: "وَلَمّا سَكَتَ"، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَلَمّا صَبَرَ عن مُوسى الغَضَبُ"، قالَ النَقّاشُ: وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: "وَلَمّا اشْتُقَّ عن مُوسى الغَضَبُ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَفِي نُسْخَتِها﴾ مَعْناهُ: وفِيما يُنْسَخُ مِنها ويُقْرَأُ، واللامُ في قَوْلِهِ: "لِرَبِّهِمْ" يُحْتَمَلُ وُجُوهًا، مَذْهَبُ المُبَرِّدِ أنَّها تَتَعَلَّقُ بِمَصْدَرٍ كَأنَّهُ قالَ: الَّذِينَ رَهْبُتُهم لِرَبِّهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ المَفْعُولُ ضَعُفَ الفِعْلُ فَقَوِيَ عَلى التَعَدِّي بِاللامِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: هم لِأجْلِ طاعَةِ رَبِّهِمْ وخَوْفِ رَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ العِقابَ والوَعِيدَ ونَحْوَ هَذا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ﴾ الآيَةُ، مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ اخْتارَ مِن قَوْمِهِ هَذِهِ العُدَّةَ لِيَذْهَبَ بِهِمْ إلى مَوْضِعِ عِبادَةٍ وابْتِهالٍ ودُعاءٍ لِيَكُونَ مِنهُ ومِنهُمُ اعْتِذارٌ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن خَطَإ بَنِي إسْرائِيلَ في عِبادَةِ العِجْلِ وطَلَبٍ لِكَمالِ العَفْوِ عَمَّنْ بَقِيَ مِنهم. ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ اخْتِيارَهم كانَ بِسَبَبِ قَوْلِ بَنِي إسْرائِيلَ: إنَّ مُوسى قَتَلَ هارُونَ حِينَ ذَهَبَ مَعَهُ ولَمْ يَرْجِعْ، فاخْتارَ هَؤُلاءِ لِيَذْهَبُوا فَيُكَلِّمُهم هارُونُ بِأنَّهُ ماتَ بِأجَلِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمِيقاتِنا﴾ يُؤَيِّدُ القَوْلَ الأوَّلَ ويُنافِرُ هَذا القَوْلَ، لِأنَّها تَقْتَضِي أنَّ ذَلِكَ كانَ عن تَوْقِيتٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وعِدَةٍ في الوَقْتِ والمَوْضِعِ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: "واخْتارَ مُوسى مِن قَوْمِهِ"، فَلَمّا انْحَذَفَ الخافِضُ تَعَدّى الفِعْلُ فَنَصَبَ، وهَذا كَثِيرٌ في كَلامِ العَرَبِ. (p-٥٧)واخْتَلَفَ العُلَماءُ في سَبَبِ الرَجْفَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِهِمْ، فَقِيلَ: كانَتْ عُقُوبَةً لَهم عَلى سُكُوتِهِمْ وإغْضائِهِمْ عَلى عِبادَةِ العِجْلِ، وقِيلَ: كانَتْ عَلى عِبادَتِهِمُ العِجْلَ بِأنْفُسِهِمْ وخَفِيَ ذَلِكَ عن مُوسى في وقْتِ الِاخْتِيارِ حَتّى أعْلَمَهُ اللهُ، قالَهُ السُدِّيُّ. وقِيلَ: كانَتْ عُقُوبَةً لَهم لِأنَّهم لَمّا دَنَوْا وعَلِمُوا أنَّ مُوسى يَسْمَعُ كَلامَ اللهِ قالُوا لَهُ: "أرِنا رَبَّكَ" فَأخَذَتْهُمُ الرَجْفَةُ، وقِيلَ: كانَتْ عُقُوبَةً لِتَشَطُّطِهِمْ في الدُعاءِ بِأنْ قالُوا: اللهُمَّ أعْطِنا ما لَمْ تُعْطِهِ أحَدًا قَبْلَنا ولا تُعْطِيهِ أحَدًا بَعْدَنا، فَأخَذَتْهُمُ الرَجْفَةُ، وقِيلَ: إنَّما أخَذَتْهم لَمّا سَمِعُوا كَلامَ هارُونَ وهو مَيِّتٌ، وذَلِكَ أنَّ مُوسى وهارُونَ ذَهَبا إلى التَعَبُّدِ أو نَحْوِهِ فَماتَ هارُونُ فَدَفَنَهُ مُوسى وجاءَ، فَقالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ: أيْنَ هارُونُ؟ فَقالَ: ماتَ، فَقالُوا بَلْ أنْتَ قَتَلْتَهُ لِأنَّكَ حَسَدْتَنا عَلى حُسْنِ خُلُقِهِ وعِشْرَتِهِ، فاخْتارَ السَبْعِينَ لِيَمْضُوا مَعَهُ حَتّى يَرَوْا بُرْهانَ ما قالَ لَهُمْ، فَلَمّا وصَلُوا قالَ لَهُ مُوسى: يا هارُونُ أقُتِلْتَ أمْ مُتَّ؟ فَناداهُ مِنَ القَبْرِ: بَلْ مُتُّ، فَأخَذَتِ القَوْمَ الرَجْفَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورُوِيَ أنَّهم ماتُوا في رَجْفَتِهِمْ هَذِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ كانَتْ كالإغْماءِ ونَحْوِهِ، والرَجْفَةُ: الِاهْتِزازُ والتَقَلْقُلُ لِلْهَوْلِ العَظِيمِ، فَلَمّا رَأى مُوسى ذَلِكَ أسِفَ عَلَيْهِمْ، وعَلِمَ أنَّ أمْرَ بَنِي إسْرائِيلَ سَيَتَشَعَّبُ عَلَيْهِ إذا لَمْ يَأْتِ بِالقَوْمِ، فَجَعَلَ يَسْتَعْطِفُ رَبَّهُ، أيْ رَبِّ لَوْ أهْلَكْتَهم قَبْلَ هَذِهِ الحالِ وإيّايَ لَكانَ أحَقَّ عَلَيَّ، وهَذا وقْتٌ هَلاكُهم فِيهِ مُفْسِدٌ عَلَيَّ مُؤْذٍ لِي. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلى جِهَةِ الرَغْبَةِ والتَضَرُّعِ والتَذَلُّلِ، ويُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهم مِن قَبْلُ وإيّايَ﴾ أنْ يُرِيدَ وقْتَ إغْضائِهِمْ عَلى عِبادَةِ العِجْلِ، أيْ: وقْتَ عِبادَتِهِمْ -عَلى القَوْلِ بِذَلِكَ-، وفي نَفْسِهِ هو وقْتُ قَتْلِهِ القِبْطِيَّ، أيْ: فَأنْتَ قَدْ سَتَرْتَ وعَفَوْتَ حِينَئِذٍ، فَكَيْفَ الآنُ إذْ رُجُوعِي دُونَهم فَسادٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ، فَمَنحى الكَلامِ -عَلى هَذا- مَحْضُ اسْتِعْطافٍ، وعَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ مَنَحاهُ الإدْلاءُ بِالحُجَّةِ في صِيغَةِ اسْتِعْطافٍ، وإذا قُلْنا: إنَّ سَبَبَ الرَجْفَةِ كانَ عِبادَةَ العِجْلِ كانَ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "أتُهْلِكُنا" لَهُ ولِلسَّبْعِينَ، و"السُفَهاءُ" إشارَةٌ إلى العَبَدَةِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وكَذَلِكَ إذا كانَ سَبَبُها قَوْلَ بَنِي إسْرائِيلَ لَهُ: قَتَلْتَ هارُونَ، وإذا كانَ سَبَبُ الرَجْفَةِ طَلَبَهُمُ الرُؤْيَةَ وتَشَطُّطَهم في الدُعاءِ أو عِبادَتَهم بِأنْفُسِهِمُ العِجْلَ فالضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "أتُهْلِكُنا" يُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ وبَنِي (p-٥٨)إسْرائِيلَ، أيْ: بِالتَفَرُّقِ والكُفْرِ والعِصْيانِ يَكُونُ هَلاكُهُمْ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: "السُفَهاءُ" إشارَةً إلى السَبْعِينَ، ورُوِيَ أنَّ السَبْعِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَن زادَ عَلى الأرْبَعِينَ ولا مَن قَصَّرَ عَنِ العِشْرِينَ، ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهم أُحْيُوا وجُعِلُوا أنْبِياءَ كُلَّهم. وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا أعْلَمَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ السَبْعِينَ عَبَدُوا العِجْلَ تَعَجَّبَ وقالَ: ﴿إنْ هي إلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَن تَشاءُ﴾ أيِ: الأُمُورُ بِيَدِكَ تَفْعَلُ ما تُرِيدُ، وقِيلَ: إنَّ اللهَ تَعالى لَمّا أعْلَمَ مُوسى بِعِبادَةِ بَنِي إسْرائِيلَ العِجْلَ وبِصِفَتِهِ قالَ مُوسى: أيْ رَبِّ ومَن أخارَهُ؟ قالَ: أنا، قالَ مُوسى: فَأنْتَ أضْلَلْتَهُمْ، إنْ هي إلّا فِتْنَتُكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ بِـ"هِيَ" إلى قَوْلِهِمْ: "أرِنا اللهَ" إذْ كانَتْ فِتْنَةً مِنَ اللهِ أوجَبَتِ الرَجْفَةَ، وفي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلى المُعْتَزِلَةِ، واغْفِرْ مَعْناهُ: اسْتُرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب