الباحث القرآني

(p-٥٢)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَمّا رَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكم وألْقى الألْواحَ وأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمَ الظالِمِينَ﴾ يُرِيدُ: رَجَعَ مِنَ المُناجاةِ، ويُرْوى أنَّهُ لَمّا قَرُبَ مِن مَحِلَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ سَمِعَ أصْواتَهم فَقالَ: هَذِهِ أصْواتُ قَوْمٍ لاهِينَ، فَلَمّا تَحَقَّقَ عُكُوفُهم عَلى عِبادَةِ العِجْلِ داخَلَهُ الغَضَبُ والأسَفُ وألْقى الألْواحَ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، وقالَ الطَبَرِيُّ: أخْبَرَهُ اللهُ تَعالى قَبْلَ رُجُوعِهِ أنَّهم قَدْ فُتِنُوا بِالعِجْلِ فَلِذَلِكَ رَجَعَ وهو غاضِبٌ، والأسَفُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنى الغَضَبِ الشَدِيدِ، وأكْثَرُ ما يَكُونُ بِمَعْنى الحُزْنِ، والمَعْنَيانِ مُتَرَتِّبانِ هاهُنا، و"ما" المُتَّصِلَةُ بِـ "بِئْسَ" مَصْدَرِيَّةٌ، هَذا قَوْلُ الكِسائِيِّ، وفِيها اخْتِلافٌ قَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ، أيْ: بِئْسَ خِلافَتُكم لِي مِن بَعْدِي، ويُقالُ: خَلَفَهُ بِخَيْرٍ أو بَشَرٍّ إذا فَعَلَهُ بِمَن تَرَكَ مِن بَعْدِهِ، ويُقالُ: عَجِلَ فُلانٌ الأمْرَ إذا سَبَقَ فِيهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿أعَجِلْتُمْ﴾ مَعْناهُ: أسابَقْتُمْ قَضاءَ رَبِّكم واسْتَعْجَلْتُمْ إتْيانِي قَبْلَ الوَقْتِ الَّذِي قُدِّرَ بِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَألْقى الألْواحَ﴾ الآيَةُ، قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: كانَ سَبَبُ إلْقائِهِ الألْواحَ غَضَبَهُ عَلى قَوْمِهِ في عِبادَتِهِمُ العِجْلَ وغَضَبَهُ عَلى أخِيهِ في إهْمالِ أمْرِهِمْ، وقالَ قَتادَةُ -إنْ صَحَّ عنهُ-: بَلْ كانَ ذَلِكَ لَمّا رَأى فِيها مِن فَضِيلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَرَغِبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، فَلَمّا عَلِمَ أنَّهُ لِغَيْرِها غَضِبَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ رَدِيءٌ لا يَنْبَغِي أنْ يُوصَفَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِهِ، والأوَّلُ هو الصَحِيحُ. وبِالجُمْلَةِ فَكانَ في خُلُقِ مُوسى ضِيقٌ وذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، ورُوِيَ أنَّها كانَتْ لَوْحانِ وجُمِعَ إذِ التَثْنِيَةُ جَمْعٌ، ورُوِيَ أنَّها كانَتْ وِقْرَ سَبْعِينَ بَعِيرًا يُقْرَأُ مِنها الجُزْءُ في سَنَةٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ مُفْرِطٌ، قالَهُ الرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ مُوسى لَمّا ألْقاها تَكَسَّرَتْ فَرُفِعَ أكْثَرُها الَّذِي فِيهِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ، وبَقِيَ الَّذِي في نُسْخَتِهِ الهُدى (p-٥٣)والرَحْمَةُ، وهو الَّذِي أخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ مِن أيِّ شَيْءٍ كانَتِ الألْواحُ، وأخْذُهُ بِرَأْسِ أخِيهِ ولِحْيَتِهِ مِنَ الخُلُقِ المَذْكُورِ، هَذا هو ظاهِرُ اللَفْظِ، ورُوِيَ أنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ لِيَسارِهِ فَخَشِيَ هارُونُ أنْ يَتَوَهَّمَ الناظِرُ إلَيْهِما أنَّهُ لِغَضَبٍ فَلِذَلِكَ نَهاهُ ورَغِبَ إلَيْهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ، والأوَّلُ هو الصَحِيحُ لِقَوْلِهِ: ﴿فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرائِيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: ٩٤]. وقَوْلُهُ: ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ اسْتِلْطافٌ بِرَحِمِ الأُمِّ إذْ هو ألْصَقُ القَراباتِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ: "ابْنَ أُمَّ" بِفَتْحِ المِيمِ، فَقالَ الكُوفِيُّونَ: أصْلُهُ: ابْنَ أُمّاهُ فَحُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وقالَ سِيبَوَيْهِ: هُما اسْمانِ بُنِيا عَلى الفَتْحِ كاسْمٍ واحِدٍ لِخَمْسَةَ عَشَرَ ونَحْوِها، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "ابْنَ أُمِّ" بِكَسْرِ المِيمِ، فَكَأنَّ الأصْلَ: ابْنَ أُمِّي فَحُذِفَتِ الياءُ، إمّا عَلى حَدِّ حَذْفِهِمْ مِن: لا أُبالِ، ولا أدْرِ تَخْفِيفًا، وإمّا كَأنَّهم جَعَلُوا الأوَّلَ والآخَرَ اسْمًا واحِدًا ثُمَّ أضافُوا، كَقَوْلِكَ: يا أحَدَ عَشَرَ أقْبِلُوا، قالَهُ سِيبَوَيْهِ، وهَذا أقْيَسُ مِنَ الحَذْفِ تَخْفِيفًا، ثُمَّ أضافُوا إلى ياءِ المُتَكَلِّمَ، ثُمَّ حُذِفَتِ الياءُ مِن "أُمِّي" عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ: يا غُلامِ فَيَحْذِفُها مِنَ المُنادى، ولَوْ لَمْ يُقَدِّرْ جَعْلَ الأوَّلِ والآخَرِ اسْمًا واحِدًا لَما صَحَّ حَذْفُها، لِأنَّ الأُمَّ لَيْسَتْ بِمُناداةٍ. و"اسْتَضْعَفُونِي" مَعْناهُ: اعْتَقَدُوا أنِّي ضَعِيفٌ، وقَوْلُهُ: "كادُوا" قارَبُوا ولَمْ يَفْعَلُوا. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ" بِضَمِّ التاءِ وكَسْرِ المِيمِ ونَصْبِ "الأعْداءَ"، وقَرَأ مُجاهِدٌ -فِيما حَكاهُ أبُو حاتِمٍ -: "فَلا تَشْمَتْ بِيَ" بِفَتْحِ التاءِ مِن فَوْقُ والمِيمِ ورَفْعِ "الأعْداءُ". حَكاها أبُو حاتِمٍ، وقَرَأ مُجاهِدٌ أيْضًا -فِيما حَكاهُ أبُو الفَتْحِ-: "فَلا تَشْمَتْ بِيَ الأعْداءَ" بِفَتْحِ التاءِ مِن فَوْقُ والمِيمِ ونَصْبِ "الأعْداءَ" هَذا عَلى أنْ يُعَدّى شَمَتَ يَشْمَتُ، وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ. قالَ أبُو الفَتْحِ: فَلا تَشْمَتُ بِي أنْتَ يا رَبُّ، وجازَ هَذا (p-٥٤)كَما قالَ تَعالى: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] ونَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ عادَ إلى المُرادِ فَأضْمَرَ فِعْلًا نَصَبَ بِهِ "الأعْداءَ"، كَأنَّهُ قالَ: لا تَشْمَتْ بِي الأعْداءُ كَقِراءَةِ الجَماعَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي كَلامِ أبِي الفَتْحِ هَذا تَكَلُّفٌ، وحَكى المَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: "تَشْمِتُ" بِفَتْحِ التاءِ وكَسْرِ المِيمِ، و"الأعْداءَ" بِالنَصْبِ، والشَماتَةُ: فَرْحَةُ العَدُوِّ بِمُصابِ عَدُوِّهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظالِمِينَ﴾ يُرِيدُ عَبَدَةَ العِجْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب