الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَمّا وقَعَ عَلَيْهِمُ الرِجْزُ قالُوا يا مُوسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرِجْزُ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ولَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿فَلَمّا كَشَفْنا عنهُمُ الرِجْزَ إلى أجَلٍ هم بالِغُوهُ إذا هم يَنْكُثُونَ﴾ ﴿فانْتَقَمْنا مِنهم فَأغْرَقْناهم في اليَمِّ بِأنَّهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وكانُوا عنها غافِلِينَ﴾ "الرِجْزُ": العَذابُ، والظاهِرُ مِنَ الآيَةِ أنَّ المُرادَ بِالرِجْزِ العَذابُ المُتَقَدِّمُ الذِكْرِ مِنَ الطُوفانِ والجَرادِ وغَيْرِهِ، وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: الإشارَةُ هُنا بِالرِجْزِ إنَّما هي إلى طاعُونٍ أنْزَلَهُ فِيهِمْ، فَماتَ مِنهم في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ سَبْعُونَ ألْفَ قِبْطِيٍّ، ورُوِيَ في ذَلِكَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أمَرَ بَنِي إسْرائِيلَ بِأنْ يَذْبَحُوا كَبْشًا ويَضْمُخُوا أبْوابَهم بِالدَمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَهم وبَيْنَ القِبْطِ في نُزُولِ العَذابِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ، وهَذِهِ الأخْبارُ وما شاكَلَها إنَّما تُؤْخَذُ مِن كُتُبِ بَنِي إسْرائِيلَ فَلِذَلِكَ ضَعُفَتْ، وقَوْلُهُمْ: ﴿بِما عَهِدَ﴾ يُرِيدُونَ: بِذِمامِكَ وماتَّتِكَ إلَيْهِ، فَهي تَعُمُّ جَمِيعَ الوَسائِلِ بَيْنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى وبَيْنَ مُوسى مِن طاعَةِ مُوسى ونِعْمَةٍ مِنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنهم عَلى جِهَةِ القَسَمِ عَلى مُوسى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ ماتًّا إلَيْهِ بِما عَهِدَ إلَيْكَ، ويُحْتَمَلُ -إنْ كانَ شَعَرَ أنَّ بَيْنَ اللهِ تَعالى وبَيْنَ مُوسى في أمْرِهِمْ عَهْدٌ ما- أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلَيْهِ، والأوَّلُ أعَمُّ وألْزَمُ، والآخَرُ يَحْتاجُ إلى رِوايَةٍ. وقَوْلُهُمْ: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ﴾ أيْ بِدُعائِكَ ﴿لَنُؤْمِنَنَّ﴾، ﴿وَلَنُرْسِلَنَّ﴾ قَسَمٌ وجَوابُهُ، وهَذا عَهْدٌ مِن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ الَّذِينَ إلَيْهِمُ الحَلُّ والعَقْدُ، ولَهم ضَمِيرُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ: "لَنُؤْمِنَنَّ". وألْفاظُ هَذِهِ الآيَةِ تُعْطِي الفَرْقَ بَيْنَ القِبْطِ وبَيْنَ بَنِي إسْرائِيلَ في رِسالَةِ مُوسى، لِأنَّهُ لَوْ كانَ إيمانُهم بِهِ عَلى حَدِّ إيمانِ بَنِي إسْرائِيلَ لَما أرْسَلُوا بَنِي إسْرائِيلَ ولا فارْقُوا (p-٣١)دِينَهُمْ، بَلْ كانُوا يُشارِكُونَ فِيهِ بَنِي إسْرائِيلَ، ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا انْكَشَفَ العَذابُ قالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسى: اذْهَبْ بِبَنِي إسْرائِيلَ حَيْثُ شِئْتَ فَخالَفَهُ بَعْضُ مِلَّتِهِ فَرَجَعَ فَنَكَثَ. وأخْبَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّهُ لَمّا كَشَفَ عنهُمُ العَذابَ نَكَثُوا عَهْدَهُمُ الَّذِي أعْطَوْهُ مُوسى. و"إذا" هاهُنا لِلْمُفاجَأةِ، و"إلى" مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "كَشَفْنا"، والأجَلُ يُرادُ بِهِ غايَةُ كُلِّ واحِدٍ مِنهم بِما يَخُصُّهُ مِنَ الهَلاكِ والمَوْتِ. وهَذا اللازِمُ مِنَ اللَفْظِ كَما تَقُولُ: أخَذْتُ كَذا إلى وقْتٍ، وأنْتَ لا تُرِيدُ وقْتًا بِعَيْنِهِ، وقالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ: الأجَلُ هُنا: الغَرَقُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وإنَّما هَذا القَوْلُ لِأنَّهُ رَأى جُمْهُورَ هَذِهِ الطائِفَةِ قَدِ اتَّفَقَ أنْ هَلَكَتْ غَرَقًا فاعْتَقَدَ أنَّ الإشارَةَ هُنا بِالأجَلِ إنَّما هي إلى الغَرَقِ، وهَذا لَيْسَ بِلازِمٍ لِأنَّهُ لا بُدَّ أنَّهُ ماتَ مِنهم قَبْلَ الغَرَقِ عالَمٌ وهم مِمَّنْ أُخِّرَ وكُشِفَ عنهُمُ العَذابُ إلى أجَلٍ بَلَغَهُ ودَخَلَ في هَذِهِ الآيَةِ، فَأيْنَ الغَرَقُ مِن هَؤُلاءِ؟ وأيْنَ هو مِمَّنْ بَقِيَ بِمِصْرَ ولَمْ يَغْرَقْ؟ وذَكَرَ بَعْضُ الناسِ أنَّ مَعْنى الكَلامِ: فَلَمّا كَشَفْنا عنهُمُ الرِجْزَ المُؤَجَّلَ إلى أجَلٍ هم بالِغُوهُ إذا هم يَنْكُثُونَ، ومَحْصُولُ هَذا التَأْوِيلِ أنَّ العَذابَ كانَ مُؤَجَّلًا، والمَعْنى الأوَّلُ أفْصَحُ لِأنَّهُ تَضَمَّنَ تَوَعُّدًا ما. وقَرَأ أبُو البَرَهْسَمِ، وأبُو حَيَوَةَ: "يَنْكِثُونَ" بِكَسْرِ الكافِ، والنَكْثُ: نَقْضُ ما أُبْرِمَ، ويُسْتَعْمَلُ في الأجْسامِ وفي المَعانِي، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ: "الرُجْزَ" بِضَمِّ الراءِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: إلّا أنَّ ابْنَ مُحَيْصِنٍ كَسَرَ حَرْفَيْنِ: "رِجْزَ الشَيْطانِ"، "والرِجْزَ فاهْجُرْ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: رَآهُما بِمَعْنًى آخَرَ بِمَثابَةِ الرِجْزِ والنَتَنِ الَّذِي يَجِبُ التَطَهُّرُ مِنهُ. (p-٣٢)وَ"اليَمُّ": البَحْرُ، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُمَّةِ: ؎ دَوِيَّةٌ ودُجى لَيْلٍ كَأنَّهُما ∗∗∗ يَمٌّ تَراطَنُ في حافاتِهِ الرُومُ والباءُ في قَوْلِهِ: "بِأنَّهُمْ" باءُ التَسْبِيبِ، ووَصْفُ الكُفّارِ بِالغَفْلَةِ -وَهم قَدْ كَذَّبُوا ورَدُّوا في صَدْرِ الآياتِ- مِن حَيْثُ غَفَلُوا عَمّا تَتَضَمَّنُهُ الآياتُ مِنَ الهُدى والنَجاةِ، فَعن ذَلِكَ غَفَلُوا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب