الباحث القرآني

(p-٢٠)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأوحَيْنا إلى مُوسى أنْ ألْقِ عَصاكَ فَإذا هي تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ﴾ ﴿فَوَقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿فَغُلِبُوا هُنالِكَ وانْقَلَبُوا صاغِرِينَ﴾ ﴿وَأُلْقِيَ السَحَرَةُ ساجِدِينَ﴾ ﴿قالُوا آمَنّا بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿رَبِّ مُوسى وهارُونَ﴾ ﴿قالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكم إنَّ هَذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنها أهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿لأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكم مِن خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكم أجْمَعِينَ﴾ "أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ "أوحَيْنا" أيْ بِأنْ ألْقِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً بِمَعْنى "أيْ"، فَلا يَكُونُ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ. ورُوِيَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا كانَ يَوْمُ الجَمْعِ، خَرَجَ مُتَّكِئًا عَلى عَصاهُ ويَدُهُ في يَدِ أخِيهِ، وقَدْ صَفَّ لَهُ السَحَرَةُ في عَدَدٍ عَظِيمٍ حَسَبَما ذُكِرَ، فَلَمّا ألْقَوْا واسْتَرْهَبُوا أوحى اللهُ تَعالى إلَيْهِ، فَألْقى عَصاهُ فَإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ، فَعَظُمَ حَتّى كانَ كالجَبَلِ، وقِيلَ: إنَّهُ طالَ حَتّى جازَ النِيلَ، وقِيلَ: كانَ الجَمْعُ بِالإسْكَنْدَرِيَّةِ وطالَ حَتّى جازَ مَدِينَةَ البُحَيْرَةِ، وقِيلَ: كانَ الجَمْعُ بِمِصْرَ وإنَّهُ طالَ حَتّى جازَ بِذَنَبِهِ بَحْرَ القُلْزُمِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الصَوابِ مُفْرِطُ الإغْراقِ لا يَنْبَغِي أنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِ، ورُوِيَ أنَّ السَحَرَةَ لَمّا ألْقَوْا وألْقى مُوسى عَصاهُ جَعَلُوا يَرْقُونَ، وجَعَلَتْ حِبالُهم وعِصِيُّهم تَعْظُمُ، وجَعَلَتْ عَصا مُوسى تَعْظُمُ حَتّى سَدَّتِ الأُفُقَ وابْتَلَعَتِ الكُلَّ ورَجَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عَصًا فَعِنْدَها آمَنَ السَحَرَةُ. ورُوِيَ أنَّ عَصا مُوسى كانَتْ عَصا آدَمَ عَلَيْهِما السَلامُ، وكانَتْ مِنَ الجَنَّةِ، وقِيلَ: كانَتْ مِنَ العَيْنِ الَّذِي في وسَطِ ورَقِ الرَيْحانِ، وقِيلَ: كانَتْ غُصْنًا مِنَ الخُبَّيْزِ، وقِيلَ: كانَتْ لَها شُعْبَتانِ، وقِيلَ: كانَتْ عَصا الأنْبِياءِ مُخْتَزَنَةً عِنْدَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَلامُ، فَلَمّا اسْتَرْعى مُوسى، قالَ لَهُ: اذْهَبْ فَخُذْ عَصًا فَذَهَبَ إلى البَيْتِ فَطارَتْ هَذِهِ إلى يَدِهِ، فَأمَرَهُ شُعَيْبٌ بَرَدِّها وأخْذِ غَيْرِها فَفَعَلَ فَطارَتْ هي إلى يَدِهِ، فَأخْبَرَ بِذَلِكَ (p-٢١)شُعَيْبًا فَتَرَكَها لَهُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إنَّ مَلَكًا مِنَ المَلائِكَةِ دَفَعَ العَصا إلى مُوسى في طَرِيقِ مَدْيَنَ. و"تَلْقَفُ" مَعْناهُ: تَبْتَلِعُ وتَزْدَرِدُ، و"ما يَأْفِكُونَ" مَعْناهُ: ما صَوَّرُوا فِيهِ إفْكَهم وكَذِبَهُمْ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "تَلَقَّفُ"، وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ: "تَلْقَفُ" بِسُكُونِ اللامِ وفَتْحِ القافِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في بَعْضِ ما رُوِيَ عنهُ: "تَّلَقَّفُ" بِتَشْدِيدِ التاءِ عَلى إدْغامِ التاءِ مِن "تَتَلَقَّفُ"، وهَذِهِ القِراءَةُ لا تَتَرَتَّبُ إلّا في الوَصْلِ، وأمّا في الِابْتِداءِ في الفِعْلِ فَلا يُمْكِنُ، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "تَلْقَمُ" بِالمِيمِ، أيْ تَبْتَلِعُ كاللُقْمَةِ. ورُوِيَ أنَّ الثُعْبانَ اسْتَوْفى تِلْكَ الحِبال والعَصِيَّ أكْلًا وأعْدَمَها اللهُ عَزَّ وجَلَّ، ومَدَّ مُوسى يَدَهُ إلى فَمِهِ فَعادَ عَصًا كَما كانَ، فَعَلِمَ السَحَرَةُ حِينَئِذٍ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِن عِنْدِ البَشَرِ فَخَرُّوا سُجَّدًا مُؤْمِنِينَ بِاللهِ ورَسُولِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَقَعَ الحَقُّ﴾ الآيَةُ، "وَقَعَ" مَعْناهُ: نَزَلَ ووُجِدَ، و"الحَقُّ" يُرِيدُ بِهِ سُطُوعَ البُرْهانِ وظُهُورَ الإعْجازِ واسْتِمْرارَ التَحَدِّي إلى الدِينِ عَلى جَمِيعِ العالَمِ، و﴿ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لَفْظٌ يَعُمُّ سِحْرَ السَحَرَةِ وسَعْيَ فِرْعَوْنَ وشِيعَتِهِ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "فَغُلِبُوا" عائِدٌ عَلى جَمِيعِهِمْ مِن سَحَرَةٍ ومِن سَعْيِ فِرْعَوْنَ وشِيعَتِهِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿وانْقَلَبُوا صاغِرِينَ﴾ إنْ قَدَّرْنا انْقِلابَ الجَمْعِ قَبْلَ إيمانِ السَحَرَةِ فَهم في الضَمِيرِ، وإنْ قَدَّرْناهُ بَعْدَ إيمانِهِمْ، فَلَيْسُوا في الضَمِيرِ، ولا لَحِقَهم صَغارٌ يَصِفُهُمُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى بِهِ؛ لِأنَّهم آمَنُوا واسْتُشْهِدُوا رَضِيَ اللهُ عنهم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السَحَرَةُ ساجِدِينَ﴾ الآياتُ، لَمّا رَأى السَحَرَةُ مِن عَظِيمِ القُدْرَةِ ما تَيَقَّنُوا بِهِ نُبُوَّةَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ، وانْضافَ إلى ذَلِكَ الِاسْتِهْوالُ والِاسْتِعْظامُ والفَزَعُ مِن قُدْرَةِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، فَخَرُّوا سُجَّدًا لِلَّهِ تَعالى مُتَطارِحِينَ، وآمَنُوا نُطْقًا بِألْسِنَتِهِمْ، وتَبَيُّنُهُمُ الرَبَّ بِذِكْرِ مُوسى وهارُونَ زَوالٌ عن رُبُوبِيَّةِ فِرْعَوْنَ وما كانَ يَتَوَهَّمُ فِيهِ الجُهّالُ مِن أنَّهُ رَبُّ الناسِ، وهارُونُ أخُو مُوسى أسَنُّ مِنهُ بِثَلاثِ سِنِينَ. (p-٢٢)وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ: ﴿قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ دَلِيلٌ عَلى وهَنِ أمْرِهِ، لِأنَّهُ إنَّما جَعَلَ ذَنْبَهم مُفارَقَةَ الإذْنِ ولَمْ يَجْعَلْهُ نَفْسَ الإيمانِ إلّا بِشَرْطٍ، وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ عنهُ في كُلِّ القُرْآنِ: "أمَنتُمْ" عَلى الخَبَرِ، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "آمَنتُمْ" بِهَمْزَةٍ ومَدَّةٍ عَلى الِاسْتِفْهامِ، وكَذَلِكَ في طَهَ والشُعَراءِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ في الثَلاثَةِ مَواضِعَ: "أآمَنتُمْ" بِهَمْزَتَيْنِ الثانِيَةُ مَمْدُودَةٌ، ورَواها الأعْمَشُ عن أبِي بَكْرٍ عن عاصِمٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةِ أبِي الإخْرِيطِ عنهُ: "وَآمَنتُمْ" وهي عَلى ألِفِ الِاسْتِفْهامِ إلّا أنَّهُ سَهَّلَها واوًا فَأجْرى المُنْفَصِلَ مَجْرى المُتَّصِلِ في قَوْلِهِمْ "تُوَدَةٌ" في "تُؤَدَةٍ"، وقَرَأ قُنْبُلٌ عَنِ القَوّاسِ: "وَآمَنتُمْ" وهي عَلى القِراءَةِ بِالهَمْزَتَيْنِ "أآمَنتُمْ" إلّا أنَّهُ سَهَّلَ ألِفَ الِاسْتِفْهامِ واوًا، وتَرَكَ ألِفَ أفَعَلْتُمْ عَلى ما هي عَلَيْهِ. والضَمِيرُ في "بِهِ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اسْمِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اسْمِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، وعَنَّفَهم فِرْعَوْنُ عَلى الإيمانِ قَبْلَ إذْنِهِ ثُمَّ ألْزَمُهم أنَّ هَذا كانَ عَلى اتِّفاقٍ مِنهُمْ، ورُوِيَ في ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ اجْتَمَعَ مَعَ رَئِيسِ السَحَرَةِ واسْمُهُ شَمْعُونُ، فَقالَ لَهُ مُوسى: أرَأيْتَ إنْ غَلَبْتُكم أتُؤْمِنُونَ بِي؟ فَقالَ لَهُ: نَعَمْ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿إنَّ هَذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ﴾ ثُمَّ قالَ لِلسَّحَرَةِ: ﴿لأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكُمْ﴾ الآيَةُ، فَرَجَعَ فِرْعَوْنُ في مَقالَتِهِ هَذِهِ إلى الخِذْلانِ والغُشْمِ وعادَةِ مُلُوكِ السُوءِ إذا غُولِبُوا. وقَرَأ حُمَيْدٌ المَكِّيُّ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، ومُجاهِدٌ: "لَأقْطَعَنَّ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ والطاءِ وإسْكانِ القافِ، "وَلَأصْلُبَنَّ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وإسْكانِ الصادِ وضَمِّ اللامِ، ورُوِيَ بِكَسْرِها، و"مِن خِلافٍ" مَعْناهُ: يُمْنى ويُسْرى. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والظاهِرُ مِن هَذِهِ الآياتِ أنَّ فِرْعَوْنَ تَوَعَّدَ، ولَيْسَ في القُرْآنِ نَصٌّ عَلى أنَّهُ أنْفَذَ ذَلِكَ وأوقَعَهُ، ولَكِنَّهُ رُوِيَ أنَّهُ صَلَبَ بَعْضَهم وقَطَعَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: فِرْعَوْنُ أوَّلُ مَن صَلَبَ وقَطَعَ مِن خِلافٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ فِيهِمْ: أصْبَحُوا سَحَرَةً وأمْسَوْا شُهَداءَ، وأمّا التَوَعُّدُ فَلِجَمِيعِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب