الباحث القرآني

وَقوله عزّ وجلّ: ﴿تِلْكَ القُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أنْبائِها ولَقَدْ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الكافِرِينَ﴾ ﴿وَما وجَدْنا لأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ وإنْ وجَدْنا أكْثَرَهم لَفاسِقِينَ﴾ "تِلْكَ" ابْتِداءٌ، و"القُرى" قالَ قَوْمٌ: هو نَعْتٌ والخَبَرُ "نَقُصُّ" ويُؤَيِّدُ هَذا أنَّ القَصْدَ إنَّما الإخْبارُ بِالقَصَصِ. (p-١٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والظاهِرُ عِنْدِي أنَّ "القُرى" هي خَبَرُ الِابْتِداءِ، وفي ذَلِكَ مَعْنى التَعْظِيمِ لَها ولِمَهْلِكِها، وهَذا كَما قِيلَ في ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢]: أنَّهُ ابْتِداءٌ وخَبَرٌ، وكَما قالَ ﷺ: « "أُولَئِكَ المَلَأُ"»، وكَقَوْلِ أُمَيَّةَ بْنَ أبِي الصَلْتِ: ؎ تِلْكَ المَكارِمُ............ ∗∗∗....................... وهَذا كَثِيرٌ، وكَأنَّ في اللَفْظِ مَعْنى التَحَسُّرِ عَلى القُرى المَذْكُورَةِ، والمَعْنى: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أنْباءِ الماضِينَ لِتَتَبَيَّنَ العِبَرَ وتَعْلَمَ المَثُلاتِ الَّتِي أوقَعَها اللهُ بِالماضِينَ. ثُمَّ ابْتَدَأ الخَبَرَ عن جَمِيعِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِن قَبْلُ﴾. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا الكَلامُ يَحْتَمِلُ أرْبَعَةَ وُجُوهٍ مِنَ التَأْوِيلِ؛ أحَدُها: أنْ يُرِيدَ أنَّ الرَسُولَ جاءَ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنهم فَكَذَّبُوهُ لِأوَّلِ أمْرِهِ، ثُمَّ اسْتَبانَتْ حُجَّتُهُ وظَهَرَتِ الآياتُ الدالَّةُ عَلى صِدْقِهِ مَعَ اسْتِمْرارِ دَعَوْتِهِ، فَلَجُّوا هم في كُفْرِهِمْ، ولَمْ يُؤْمِنُوا بِما تَبَيَّنَ بِهِ تَكْذِيبُهم مِن قَبْلُ. وكَأنَّهُ وصَفَهم -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- بِاللَجاجِ في الكُفْرِ والصَرامَةِ عَلَيْهِ، ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الكافِرِينَ﴾ ويَحْتَمِلُ -فِي هَذا الوَجْهِ- أنْ يَكُونَ المَعْنى: ﴿فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ أيْ: ما كانُوا لِيُوَفِّقَهُمُ اللهُ إلى الإيمانِ بِسَبَبِ أنَّهم كَذَّبُوا قَبْلُ فَكانَ تَكْذِيبُهم سَبَبًا لِأنْ يُمْنَعُوا الإيمانَ بَعْدُ. والثانِي مِنَ الوُجُوهِ؛ أنْ يُرِيدَ: فَما كانَ آخِرُهم في الزَمَنِ والعَصْرِ لِيَهْتَدِيَ ويُؤْمِنَ بِما كَذَّبَ بِهِ أوَّلُهم في الزَمَنِ والعَصْرِ، بَلْ كَفَرَ كُلُّهُمْ، ومَشى بَعْضُهم عن سُنَنِ بَعْضٍ في الكُفْرِ. (p-١١)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: أشارَ إلى هَذا القَوْلِ النَقّاشُ، فَكَأنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: "كانُوا" يَخْتَصُّ بِالآخَرِينَ، والضَمِيرَ في قَوْلِهِ: "كَذَّبُوا" يَخْتَصُّ بِالقُدَماءِ مِنهُمْ، والثالِثُ مِنَ الوُجُوهِ؛ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: فَما كانَ هَؤُلاءِ المَذْكُورُونَ بِأجْمَعِهِمْ -لَوْ رُدُّوا إلى الدُنْيا ومُكِّنُوا مِنَ العَوْدَةِ- لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا في حالِ حَياتِهِمْ ودُعاءِ الرَسُولِ لَهُمْ، قالَهُ مُجاهِدٌ وقَرَنَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عنهُ﴾ [الأنعام: ٢٨]،وَهَذِهِ أيْضًا صِفَةٌ بَلِيغَةٌ في اللَجاجِ والثُبُوتِ عَلى الكُفْرِ، بَلْ هي غايَةٌ في ذَلِكَ. والرابِعُ مِنَ الوُجُوهِ؛ أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ وصْفَهم بِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِما قَدْ سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى أنَّهم مُكَذِّبُونَ بِهِ، فَجَعَلَ سابِقَ القَدَرِ عَلَيْهِمْ بِمَثابَةِ تَكْذِيبِهِمْ بِأنْفُسِهِمْ لا سِيَّما وقَدْ خَرَجَ تَكْذِيبُهم إلى الوُجُودِ في وقْتِ مَجِيءِ الرُسُلِ، وذَكَرَ هَذا التَأْوِيلَ المُفَسِّرُونَ وقَرَنُوهُ بِأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ حَتَمَ عَلَيْهِمُ التَكْذِيبَ وقْتَ أخْذِ المِيثاقَ، وهو قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رِضى اللهِ عنهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما وجَدْنا لأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ﴾ الآيَةُ. أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِأكْثَرِهِمْ ثُبُوتًا عَلى العَهْدِ الَّذِي أخَذَهُ عَلى ذُرِّيَّةِ آدَمَ وقْتَ اسْتِخْراجِهِمْ مِن ظَهْرِهِ. قالَهُ أبُو العالِيَةِ عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ عِبارَةً عن أنَّهم لَمْ يَصْرِفُوا عُقُولَهم في الآياتِ المَنصُوبَةِ، ولا شَكَرُوا نِعَمَ اللهِ، ولا قادَتْهم مُعْجِزاتُ الأنْبِياءِ، لِأنَّ هَذِهِ الأُمُورَ عَهْدٌ في رِقابِ العُقَلاءِ كالعُهُودِ يَنْبَغِي أنْ يُوَفّى بِها، وأيْضًا فَمِن لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ تَقَرَّرَ العَهْدُ الَّذِي هو بِمَعْنى الوَصِيَّةِ، وبِهِ فَسَّرَ الحَسَنُ هَذِهِ الآيَةَ، فَيَجِيءُ المَعْنى: وما وجَدْنا لِأكْثَرِهِمُ التِزامَ عَهْدٍ وقَبُولَ وصاةٍ، ذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ. و"مِن" في هَذِهِ الآيَةِ زائِدَةٌ، إلّا أنَّها تُعْطِي اسْتِغْراقَ جِنْسِ العَهْدِ، ولا تَجِيءُ هَذِهِ إلّا بَعْدَ النَفْيِ، و"إنْ" هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقِيلَةِ مِن عِنْدِ سِيبَوَيْهِ، واللامُ في قَوْلِهِ: "لَفاسِقِينَ" لِلْفَرْقِ بَيْنَ "إنْ" المُخَفَّفَةِ وغَيْرِها، و"إنْ" عِنْدَ الفَرّاءِ هي بِمَعْنى "ما"، واللامُ بِمَعْنى "إلّا"، والتَقْدِيرُ عِنْدَهُ: وما وجَدْنا أكْثَرَهم إلّا فاسِقِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب