الباحث القرآني

(p-٥٠٩)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ "اَلْأعْرافِ" وهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّها؛ قالَهُ الضَحّاكُ وغَيْرُهُ؛ وقالَ مُقاتِلٌ: هي مَكِّيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ - تَبارَكَ وتَعالى -: ﴿واسْألْهم عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ﴾ [الأعراف: ١٦٣] ؛ إلى قَوْلِهِ - سُبْحانَهُ وتَعالى -: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] ؛ فَإنَّ هَذِهِ الآياتِ مَدَنِيَّةٌ. قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿الـمـص﴾ ﴿كِتابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن رَبِّكم ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ قَلِيلا ما تَذَكَّرُونَ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في تَفْسِيرِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ الَّتِي في أوائِلِ السُوَرِ؛ وذِكْرُ اخْتِلافِ المُتَأوِّلِينَ فِيها؛ ويَخْتَصُّ هَذا المَوْضِعُ - زائِدًا عَلى تِلْكَ الأقْوالِ - بِما قالَهُ السُدِّيُّ: إنَّ "الـمـص"؛ هِجاءُ اسْمِ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى -؛ هُوَ: "اَلْمُصَوِّرُ"؛ وبِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: إنَّ مَعْناهُ: "أنا اللهُ الفاصِلُ". وقَوْلُهُ تَعالى ﴿كِتابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ قالَ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ: "كِتابٌ"؛ رُفِعَ عَلى الخَبَرِ لِلْحُرُوفِ؛ كَأنَّهُ قالَ: "هَذِهِ الحُرُوفُ كِتابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ"؛ ورَدَّ الزَجّاجُ عَلى هَذا القَوْلِ بِما لا طائِلَ فِيهِ؛ وقالَ غَيْرُهُ: "كِتابٌ"؛ رُفِعَ عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ؛ تَقْدِيرُهُ: "هَذا كِتابٌ"؛ و﴿ "أُنْزِلَ إلَيْكَ"؛﴾ في مَوْضِعِ الصِفَةِ لِـ "كِتابٌ". ثُمَّ نُهِيَ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ يُبْرِمَ؛ أو يَسْتَصْحِبَ مِن هَذا الكِتابِ؛ أو بِسَبَبٍ مِن أسْبابِهِ؛ حَرَجًا؛ ولَفْظُ النَهْيِ هو لِلْحَرَجِ؛ ومَعْناهُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ وأصْلُ "اَلْحَرَجُ": اَلضَّيْقُ؛ ومِنهُ "اَلْحَرَجَةُ": اَلشَّجَرُ المُلْتَفُّ؛ الَّذِي قَدْ تَضايَقَ؛ والحَرَجُ - هَهُنا - يَعُمُّ الشَكَّ؛ والخَوْفَ؛ والهَمَّ؛ (p-٥١٠)وَكُلَّ ما يُضَيِّقُ الصَدْرَ؛ وبِحَسَبِ سَبَبِ الحَرَجِ يُفَسَّرُ الحَرَجُ هَهُنا؛ وتَفْسِيرُهُ بِالشَكِّ قَلِقٌ؛ والضَمِيرُ في "مِنهُ"؛ عائِدٌ عَلى الكِتابِ؛ أيْ: بِسَبَبٍ مِن أسْبابِهِ؛ و"مِن"؛ هَهُنا؛ لِابْتِداءِ الغايَةِ؛ وقِيلَ: يَعُودُ عَلى التَبْلِيغِ؛ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ مَعْنى الآيَةِ؛ وقِيلَ: عَلى الإنْذارِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا التَخْصِيصُ كُلُّهُ لا وجْهَ لَهُ؛ إذِ اللَفْظُ يَعُمُّ الجِهاتِ الَّتِي هي مِن سَبَبِ الكِتابِ ولِأجْلِهِ؛ وذَلِكَ يَسْتَغْرِقُ التَبْلِيغَ؛ والإنْذارَ؛ وتَعَرُّضَ المُشْرِكِينَ؛ وتَكْذِيبَ المُكَذِّبِينَ؛ وغَيْرَ ذَلِكَ؛ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنهُ﴾ ؛ اِعْتِراضٌ في أثْناءِ الكَلامِ؛ ولِذَلِكَ قالَ بَعْضُ الناسِ: إنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا؛ وقَوْلُهُ تَعالى "لِتُنْذِرَ"؛ اَللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "أُنْزِلَ"؛ وقَوْلُهُ تَعالى "وَذِكْرى"؛ مَعْناهُ: تَذْكِرَةٌ؛ وإرْشادٌ؛ و"ذِكْرى"؛ في مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: "كِتابٌ"؛ فالتَقْدِيرُ: "هَذِهِ الحُرُوفُ كِتابٌ وذِكْرى"؛ وقِيلَ: رَفْعُهُ عَلى جِهَةِ العَطْفِ عَلى صِفَةِ الكِتابِ؛ فالتَقْدِيرُ: "هَذِهِ الحُرُوفُ كِتابٌ مُنَزَّلٌ إلَيْكَ وذِكْرى"؛ فَهي عَطْفٌ عَلى "مُنَزَّلٌ"؛ داخِلَةٌ في صِفَةِ الكِتابِ؛ وقِيلَ: "وَذِكْرى"؛ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ؛ تَقْدِيرُهُ: "لِتُنْذِرَ بِهِ وتُذَكِّرَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ"؛ وقِيلَ: نَصْبُها عَلى المَصْدَرِ؛ وقِيلَ: "وَذِكْرى"؛ في مَوْضِعٍ خَفْضٍ؛ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ تَعالى "لِتُنْذِرَ"؛ أيْ: "لِإنْذارِكَ وذِكْرى". وقَوْلُهُ تَعالى ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن رَبِّكُمْ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ قالَ الطَبَرِيُّ ؛ وحَكاهُ: اَلتَّقْدِيرُ: "قُلِ اتَّبِعُوا"؛ فَحُذِفَ القَوْلُ لِدَلالَةِ الإنْذارِ المُتَقَدِّمِ الذِكْرِ عَلَيْهِ؛ وقالَتْ فِرْقَةٌ: قَوْلُهُ تَعالى "اِتَّبِعُوا"؛ أمْرٌ يَعُمُّ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وأُمَّتَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والظاهِرُ أنْ يَكُونَ أمْرًا لِجَمِيعِ الناسِ؛ أيْ: "اِتَّبِعُوا مِلَّةَ الإسْلامِ؛ والقُرْآنَ". (p-٥١١)وَقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "اِبْتَغُوا ما أُنْزِلَ"؛ مِن "اَلِابْتِغاءُ"؛ وقَرَأ مُجاهِدٌ: و"وَلا تَبْتَغُوا"؛ مِن "اَلِابْتِغاءُ"؛ أيْضًا؛ وقَوْلُهُ تَعالى "أولِياءَ"؛ يُرِيدُ كُلَّ ما عُبِدَ واتُّبِعَ مِن دُونِ اللهِ تَعالى ؛ كالأصْنامِ؛ والأحْبارِ؛ والكُهّانِ؛ والنارِ؛ والكَواكِبِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ "مِن دُونِهِ"؛﴾ راجِعٌ إلى "رَبِّكُمْ"؛ هَذا أظْهَرُ وُجُوهِهِ؛ وأبْيَنُها؛ وقِيلَ: يَعُودُ عَلى "ما"؛ مِن قَوْلِهِ: ﴿ "اتَّبِعُوا ما"؛﴾ وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الكِتابِ؛ المُتَقَدِّمِ الذِكْرِ؛ و"قَلِيلًا"؛ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ؛ نُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ؛ وقالَ مَكِّيٌّ: هو مَنصُوبٌ بِالفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ؛ قالَ الفارِسِيَّ: و"ما"؛ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ "ما تَذَكَّرُونَ"؛﴾ مَوْصُولَةٌ بِالفِعْلِ؛ وهي مَصْدَرِيَّةٌ؛ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ ونافِعٌ ؛ وأبُو عَمْرٍو ؛ وعاصِمٌ ؛ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: "تَذَّكَّرُونَ"؛ بِتَشْدِيدِ الذالِ؛ والكافِ؛ وقَرَأ حَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ ؛ وعاصِمٌ ؛ في رِوايَةِ حَفْصٍ: "تَذَكَّرُونَ"؛ بِتَخْفِيفِ الذالِ؛ وتَشْدِيدِ الكافِ؛ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "يَتَذَكَّرُونَ"؛ بِالياءِ؛ كِنايَةً عن غَيْبٍ؛ ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قَرَأ: "تَتَذَكَّرُونَ"؛ بِتاءَيْنِ؛ عَلى مُخاطَبَةِ حاضِرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب