الباحث القرآني

(p-٣٩٤)قوله عزّ وجلّ: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ ﴿ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ ﴿ثُمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعًا فاسْلُكُوهُ﴾ ﴿إنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ العَظِيمِ﴾ ﴿وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ ﴿فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ ها هُنا حَمِيمٌ﴾ ﴿وَلا طَعامٌ إلا مِن غِسْلِينٍ﴾ ﴿لا يَأْكُلُهُ إلا الخاطِئُونَ﴾ ﴿فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ﴾ ﴿وَما لا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ المَعْنى يَقُولُ اللهُ تَعالى، أوِ المَلِكُ بِأمْرِهِ- لِلزَّبانِيَةِ: "خُذُوهُ فَغَلُّوهُ" أيِ: اجْعَلُوا عَلى عُنُقِهِ غِلًّا، قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: نَزَلَتْ في أبِي جَهْلٍ. و"ذَرْعُها" مَعْناهُ: مَبْلَغُ كَيْلِها، وقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعالى السَبْعَمِائَةَ والسَبْعِينَ، والسَبْعَةَ، مَواقِفَ ونِهاياتٍ لِأشْياءَ عِظامٍ، فَذَلِكَ مَشْيُ العَرَبِ وغَيْرِهِمْ عَلى أنْ يَجْعَلُوها نِهاياتٍ، وهَذِهِ السِلْسِلَةُ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ تَعالى فِيها السَبْعِينَ نِهايَةً، وقَرَأ السُدِّيُّ: "ذَرْعُها سَبْعِينَ" بِالياءِ، وهَذا عَلى حَذْفِ خَبَرِ الِابْتِداءِ، واخْتَلَفَ الناسُ في قَدْرِ هَذا الذِراعِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، وابنُ جُرَيْجٍ: هو بِذِراعِ المَلِكِ وقالَ نَوْفُ البَكالِيُّ وغَيْرُهُ: في الذِراعِ سَبْعُونَ باعًا في كُلِّ باعٍ كَما بَيْنَ الكُوفَةِ ومَكَّةَ. وهَذا يَحْتاجُ إلى سَنَدٍ. وقالَ حُذّاقٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هي بِالذِراعِ المَعْرُوفَةِ مِنّا، وإنَّما خُوطِبْنا بِما نَعْرِفُهُ ونُحَصِّلُهُ، وقالَ الحَسَنُ: اللهُ أعْلَمُ بِأيِّ ذِراعٍ هِيَ، وقالَ سُوِيدُ بْنُ نَجِيحٍ -فِي كِتابِ الثَعْلَبِيِّ -: بَلَغَنِي أنَّ جَمِيعَ أهْلِ النارِ في تِلْكَ السِلْسِلَةِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لَوْ وضَعَ حَلْقَةً مِنها عَلى جَبَلٍ لَذابَ كالرَصاصِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "فاسْلُكُوهُ" مَعْناهُ: فادْخُلُوهُ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي وجْزَةَ السَعْدِيِّ يَصِفُ حُمُرَ وحْشٍ: ؎ حَتّى سَلَكْنَ الشَوى مِنهُنَّ في مِسْكٍ مِن نَسْلِ جَوّابَةِ الآفاقِ مِهْداجِ (p-٣٩٥)وَرُوِيَ أنَّ هَذِهِ السِلْسِلَةَ تَدْخُلُ في فَمِ الكافِرِ وتَخْرُجُ مِن دُبُرِهِ، فَهي في الحَقِيقَةِ الَّتِي تَسْلُكُ فِيهِ، لَكِنَّ الكَلامَ جَرى مَجْرى قَوْلِهِمْ: أدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي، وفَمِي فى الحَجَرِ، ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ السِلْسِلَةَ تُلْوى حَوْلَ الكافِرِ حَتّى تَغُمُّهُ وتَضْغَطُهُ، فالكَلامُ -عَلى هَذا- عَلى وجْهِهِ، وهو المَسْلُوكُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ المُرادُ بِهِ: عَلى إطْعامِ طَعامِ المِسْكِينِ، وإضْافَةُ الطَعامِ إلى المِسْكِينِ مِن حَيْثُ لَهُ إلَيْهِ نِسْبَةٌ ما، وخُصَّتْ هَذِهِ الخُلَّةُ مِن خِلالِ الكافِرِ بِالذِكْرِ لِأنَّها مِن أضَرَّ الخِلالِ في البَشَرِ، إذا كَثُرَتْ في قَوْمٍ هَلَكَ مَساكِينُهم. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: "حَمِيمٌ"، فَقالَ جُمْهُورٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هو الصَدِيقُ اللَطِيفُ المَوَدَّةِ، فَنَفى اللهُ تَعالى أنْ يَكُونَ لِلْكافِرِ هُنالِكَ مَن يُوالِيهِ، ونَفى أنْ يَكُونَ لَهُ طَعامٌ إلّا مِن غِسْلِينَ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ المُسْتَنِيرِ: الحَمِيمُ الماءُ الحارُّ، فَكَأنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّ الكافِرَ لَيْسَ لَهُ ماءٌ ولا شَيْءَ مائِعٌ ولا طَعامٌ إلّا مِن غِسْلِينَ، وهو -فِيما قالَ اللُغَوِيُّونَ- ما يَجْرِي مِنَ الجِراحِ إذا غُسِلَتْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو صَدِيدُ أهْلِ النارِ، وقالَ قَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ: الغِسْلِينُ والزَقُّومُ أخْبَثُ شَيْءٍ وأبْشَعُهُ، وقالَ الضَحّاكُ، والرَبِيعُ هو شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أهْلُ النارِ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هو شَيْءٌ يُجْرى مِن ضَرِيعٍ لِأنَّ اللهَ تَعالى قَدْ أخْبَرَ أنَّهُ لَيْسَ لَهم طَعامٌ إلّا مِن ضَرِيعٍ، وفي أُخْرى إلّا مِن غِسْلِينَ، فَهُما شَيْءٌ واحِدٌ أوِ اثْنانِ مُتَداخِلانِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الإخْبارُ هُنا عن طائِفَةٍ وهُناكَ عن طائِفَةٍ ويَكُونُ الغِسْلِينُ والضَرِيعُ مُتَبايِنَيْنِ عَلى ما يُفْهَمُ في لِسانِ العَرَبِ. وخَبَرُ "لَيْسَ" في "لَهُ"، وقالَ المَهْدَوِيُّ: ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ "هاهُنا". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ يَصِحُّ ذَلِكَ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. (p-٣٩٦)وَ"الخاطِئُ": الَّذِي يَفْعَلُ ضِدَّ الصَوابِ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ، و"المُخْطِئُ" الَّذِي يَفْعَلُهُ غَيْرُ مُتَعَمَّدٍ، وقَرَأ الحَسَنُ، والزَهْرِيُّ: "الخاطِيونَ" بِالياءِ دُونَ هَمْزٍ، وقَرَأ طَلْحَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، ونافِعٌ -بِخِلافٍ عنهُ-: "الخاطُّونَ" بِضَمِّ الطاءِ دُونَ هَمْزٍ. قَوْلُهُ تَعالى: "فَلا أُقْسِمُ"، قالَ بَعْضُ النُحاةِ "لا" زائِدَةٌ، والمَعْنى: فَأقْسَمَ، وقالَ آخَرُونَ مِنهُمْ: "لا" رَدَّ لِما تَقَدَّمَ مِن أقْوالِ الكُفّارِ، والبِدايَةُ "أُقْسِمُ"، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "فَلَأُقْسِمُ" لِأنَّ لامَ القَسَمِ مَعَها ألِفُ أُقْسِمُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما تُبْصِرُونَ﴾ ﴿وَما لا تُبْصِرُونَ﴾ قالَ قَتادَةُ بْنُ دِعامَةَ: أرادَ اللهُ تَعالى أنْ يُعَمِّمَ القَسَمَ جَمِيعَ مَخْلُوقاتِهِ، وقالَ غَيْرُهُ: أرادَ الأجْسادَ والأرْواحَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ عامٌّ. وقالَ قَوْلٌ حَسَنٌ عامٌّ. وقالَ ابْنُ عَطاءٍ: ما تُبْصِرُونَ مِن آثارِ القُدْرَةِ وما لا تُبْصِرُونَ مِن آثارِ القُدْرَةِ، وقالَ قَوْمٌ: أرادَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: "وَما لا تُبْصِرُونَ" المَلائِكَةَ. و"الرَسُولُ الكَرِيمُ" هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ في تَأْوِيلِ جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ، ومُحَمَّدٌ ﷺ في قَوْلِ آخَرِينَ، وأُضِيفَ القَوْلُ إلَيْهِ لِأنَّهُ هو الَّذِي مَن تَلاهُ وبَلَّغَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب