الباحث القرآني
(p-٣٩٢)قوله عزّ وجلّ:
﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنكم خافِيَةٌ﴾ ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ ﴿إنِّي ظَنَنْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ﴾ ﴿فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ ﴿فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ﴾ ﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ ﴿كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أسْلَفْتُمْ في الأيّامِ الخالِيَةِ﴾ ﴿وَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ﴾ ﴿وَلَمْ أدْرِ ما حِسابِيَهْ﴾ ﴿يا لَيْتَها كانَتِ القاضِيَةَ﴾ ﴿ما أغْنى عَنِّي مالِيَهْ﴾ ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ﴾
الخِطابُ في قَوْلِهِ تَعالى:"تُعْرَضُونَ" لِجَمِيعِ العالِمِ، ورُوِيَ عن أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وابْنُ مَسْعُودٍ أنَّ في القِيامَةِ عُرْضَتَيْنِ، فِيهِما مَعاذِيرُ، وتَوْقِيفٌ، وخُصُوماتٌ، وجِدالٌ، ثُمَّ تَكُونُ عُرْضَةً ثالِثَةً تَتَطايَرُ فِيها الصُحُفُ بِالأيْمانِ والشَمائِلِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "لا يَخْفى" بِالياءِ، وهي قِراءَةُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وابْنِ وثّابٍ، وطَلْحَةِ، والأعْمَشِ، وعِيسى، وقَرَأ الباقُونَ بِالتاءِ عَلى مُراعاةِ تَأْنِيثِ "خافِيَةٌ"، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ، وقَوْلُهُ تَعالى: "خافِيَةٌ" مَعْناهُ: ضَمِيرٌ ولا مُعْتَقَدٌ.
"والَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهم بِأيْمانِهِمْ" هُمُ المُخَلَّدُونَ في الجَنَّةِ أهْلِ الإيمانِ، واخْتَلَفَ أهْلُ العَقْلِ والعِلْمِ في الفِرْقَةِ الَّتِي يَنْفُذُ فِيها الوَعِيدُ مِن أهْلِ المَعاصِي، مَتى تَأْخُذُ كُتُبَها؟ فَقالَ بَعْضُهُمْ: الأظْهَرُ أنَّها تَأْخُذُها مَعَ الناسِ، وذَلِكَ يُؤْنِسُها مُدَّةَ العَذابِ، قالَ الحَسَنُ: فَإذا أُعْطِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ لَمْ يَقْرَأْهُ حَتّى يَأْذَنَ اللهُ لَهُ، فَإذا أذِنَ لَهُ قالَ: ﴿هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾، وقالَ آخَرُونَ: الأظْهَرُ أنَّهُ إذا أُخْرِجُوا مِنَ النارِ، والإيمانُ يُؤْنِسُهم فى وقْتِ العَذابِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا هو ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ لِأنَّ مَن يَسِيرُ إلى النارِ كَيْفَ يَقُولُ هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ؟ وأمّا "هاؤُمُ" فَقالَ قَوْمٌ: أصْلُهُ "هاؤُمُوا" ثُمَّ نَقَلَهُ التَخْفِيفُ والِاسْتِعْمالُ، وقالَ آخَرُونَ: هَذِهِ المِيمُ ضَمِيرُ الجَماعَةِ. وفي هَذا كُلِّهِ نَظَرٌ، والمَعْنى عَلى كُلِّ وجْهٍ: تَعالَوْا، فَهو اسْتِدْعاءٌ لِلْفِعْلِ المَأْمُورِ بِهِ، وقَوْلُهُ: "اقْرَءُوا كِتابِيَهْ" هو اسْتِبْشارٌ وسُرُورٌ.
وقَوْلُهُ: "إنّى ظَنَنْتُ" الآيَةُ، عِبارَةٌ عن إيمانِهِ بِالبَعْثِ وغَيْرِهِ، قالَ قَتادَةُ: ظَنَّ هَذا ظَنًّا يَقِينًا فَنَفَعَهُ، وقَوْمٌ ظَنُّوا ظَنَّ شَكِّ فَشَقُّوا بِهِ، و"ظَنَنْتُ" هُنا واقِعَةٌ مَوْقِعَ "تَيَقَّنْتُ"، وهي في مُتَيَقِّنٍ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ ولا خَرَجَ إلى الحِسِّ، وهَذا هو بابُ الظَنِّ الَّذِي يُوقِعُ مَوْقِعَ اليَقِينِ، (p-٣٩٣)وَقَرَأ بَعْضُ القُرّاءِ: "كِتابِيَهْ" و"حِسابِيَهْ" و"مالِيَهْ" و"سُلْطانِيَهْ" بِالهاءِ في الوَصْلِ والوَقْفِ اقْتِداءً بِخَطِّ المُصْحَفِ، وهي في الوَصْلِ بِنِيَّةِ الوُقُوفِ لِأنَّها هاءُ السَكْتِ فَلا مَعْنى لَها في الوَصْلِ، وطَرَحَ الهاءاتِ في الوَصْلِ لا في الوَقْفِ الأعْمَشُ وابْنُ أبِي إسْحاقَ، قالَ أبُو حاتِمٍ: قِراءَتُنا إثْباتُ الهاءاتِ في الوَقْفِ وطَرْحُها في الوَصْلِ، وبِذَلِكَ قَرَأ ابْنُ أبِي مُحَيْصِنٍ، وسَلامٌ، وقالَ الزَهْراوِيُّ: إثْباتُ الهاءِ في الوَصْلِ لَحْنٌ لا يَجُوزُ عنهُ أحَدٌ عَلِمْتُهُ.
و"راضِيَةٍ" مَعْناهُ: ذاتُ رِضًى، فَهو بِمَعْنى مَرَضِيَّةٍ، ولَيْسَتْ بِناءَ اسْمِ فاعِلٍ، و"عالِيَةٍ" مَعْناهُ: في المَكانِ والقَدَرِ وجَمِيعِ وُجُوهِ العُلُوِّ.
و"القُطُوفُ" جَمْعُ قَطْفٍ، وهو ما يُجْتَنى مِنَ الثِمارِ ويُقْطَفُ، ودُنُوُّها هو أنَّها تَأْتِي طَوْعَ التَمَنِّي فَيَأْكُلُها القائِمُ والقاعِدُ والمُضْطَجِعُ بِفِيهِ مِن شَجَرَتِها. و"أسْلَفْتُمْ" مَعْناهُ: قَدَّمْتُمْ، و"الأيّامُ الخالِيَةُ" هي أيّامُ الدُنْيا لِأنَّها في الآخِرَةِ قَدْ خَلَتْ وذَهَبَتْ، وقالَ وكِيعٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ رَفِيعٍ: المُرادُ: بِما أسْلَفْتُمْ مِنَ الصَوْمِ. وعُمُومُها في كُلِّ الأعْمالِ أولى وأحْسَنُ.
و"الَّذِينَ يُؤْتُونَ كِتابَهم بِشَمائِلِهِمْ" هُمُ المُخَلَّدُونَ في النارِ أهْلُ الكُفْرِ، فَيَتَمَنَّوْنَ أنْ لَوْ كانُوا مَعْدُومِينَ لا يَجْرِي عَلَيْهِمْ شَيْءٌ. وقَوْلُهُ: ﴿يا لَيْتَها كانَتِ القاضِيَةَ﴾ إشارَةٌ إلى مَوْتَةِ الدُنْيا، أيْ لَيْتَها لَمْ يَكُنْ بَعْدَها رُجُوعٌ ولا حَياةٌ، وقَوْلُهُ: ﴿ما أغْنى عَنِّي مالِيَهْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الِاسْتِفْهامَ عَلى مَعْنى التَقْرِيرِ لِنَفْسِهِ والتَوْبِيخِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ النَفْيَ المَحْضَ، و"السُلْطانُ" في الآيَةِ: الحُجَّةُ، عَلى قَوْلِ عِكْرِمَةَ ومُجاهِدٍ، قالَ بَعْضُهم -وَنَحا إلَيْهِ ابْنُ زَيْدٍ -: تنْطِقُ بِذَلِكَ مُلُوكُ الدُنْيا الكَفَرَةُ.
والظاهِرَةُ عِنْدِي أنَّ سُلْطانَ كُلِّ أحَدٍ حالُهُ في الدُنْيا مِن عَدَدٍ وعُدَدٍ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "لا يُؤَمَّنُ الرَجُلُ في سُلْطانِهِ، ولا يَجْلِسُ عَلى تَكْرِمَتِهِ إلّا بِإذْنِهِ".»
{"ayahs_start":18,"ayahs":["یَوۡمَىِٕذࣲ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِیَةࣱ","فَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ فَیَقُولُ هَاۤؤُمُ ٱقۡرَءُوا۟ كِتَـٰبِیَهۡ","إِنِّی ظَنَنتُ أَنِّی مُلَـٰقٍ حِسَابِیَهۡ","فَهُوَ فِی عِیشَةࣲ رَّاضِیَةࣲ","فِی جَنَّةٍ عَالِیَةࣲ","قُطُوفُهَا دَانِیَةࣱ","كُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ هَنِیۤـَٔۢا بِمَاۤ أَسۡلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡأَیَّامِ ٱلۡخَالِیَةِ","وَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِشِمَالِهِۦ فَیَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُوتَ كِتَـٰبِیَهۡ","وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِیَهۡ","یَـٰلَیۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِیَةَ","مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنِّی مَالِیَهۡۜ","هَلَكَ عَنِّی سُلۡطَـٰنِیَهۡ"],"ayah":"كُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ هَنِیۤـَٔۢا بِمَاۤ أَسۡلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡأَیَّامِ ٱلۡخَالِیَةِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق