الباحث القرآني

(p-٣٨٤)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الحاقَّةِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ. ورُوِيَ «عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: خَرَجَتْ يَوْمًا بِمَكَّةَ مُتَعَرِّضًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي المَسْجِدَ الحَرامَ، فَجِئْتُ فَوَقَفْتُ وراءَهُ، فافْتَتَحَ سُورَةَ الحاقَّةِ، فَلَمّا سَمِعْتُ سَرْدَ القُرْآنِ قُلْتُ في نَفْسِي إنَّهُ لِشاعِرٌ، كَما تَقُولُ قُرَيْشٌ، حَتّى بَلَغَ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [الحاقة: ٤٠] ﴿وَما هو بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلا ما تُؤْمِنُونَ﴾ [الحاقة: ٤١] ﴿وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلا ما تَذَكَّرُونَ﴾ [الحاقة: ٤٢] ﴿تَنْزِيلٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الحاقة: ٤٣]. ثُمَّ مَرَّ حَتّى انْتَهى إلى آخِرِ السُورَةِ، فَأدْخَلَ اللهُ تَعالى في قَلْبِي الإسْلامَ.» قوله عزّ وجلّ: ﴿الحاقَّةُ﴾ ﴿ما الحاقَّةُ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما الحاقَّةُ﴾ ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وعادٌ بِالقارِعَةِ﴾ ﴿فَأمّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطاغِيَةِ﴾ ﴿وَأمّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ﴾ ﴿سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وثَمانِيَةَ أيّامٍ حُسُومًا فَتَرى القَوْمَ فِيها صَرْعى كَأنَّهم أعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ﴾ ﴿فَهَلْ تَرى لَهم مِن باقِيَةٍ﴾ "الحاقَّةُ" اسْمُ فاعِلٍ مِن "حَقَّ الشَيْءَ يَحِقُّ" إذا كانَ صَحِيحَ الوُجُودِ، ومِنهُ "حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذابِ"، والمُرادُ بِهِ البَعْثُ والقِيامَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ وغَيْرُهُ، وسُمِّيَتِ القِيامَهُ حاقَّةً لِأنَّها حَقَّقَتْ لِكُلِّ عامِلٍ عَمَلَهُ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: "الحاقَّةُ" مَصْدَرٌ كالعاقِبَةِ والعافِيَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ: ذاتُ الحَقِّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: سُمِّيَتِ القِيامَةُ حاقَّةً لِأنَّها تُبْدِي حَقائِقَ الأشْياءِ، واللَفْظَةُ رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ و"ما" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ أيْضًا، و"الحاقَّةُ" الثانِيَةُ: خَبَرُ "ما"، والجُمْلَةُ خَبَرُ الأوَّلِ، وهَذا كَما تَقُولُ: "زِيدَ ما زِيدَ"، عَلى مَعْنى التَعْظِيمِ لَهُ وإبْهامٍ في التَعْظِيمِ أيْضًا لِيَتَخَيَّلَ السامِعُ أقْصى جُهْدِهِ. (p-٣٨٥)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أدْراكَ ما الحاقَّةُ﴾ مُبالَغَةً في هَذا المَعْنى، أيْ أنَّ فِيها ما لَمْ تَدِرْهُ مِن أهْوالِها وتَفْصِيلِ صِفاتِها، و"ما" تَقْرِيرٌ وتَوْقِيفٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما الحاقَّةُ﴾ ابْتِداءُ وخَبَرٌ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بـ "أدْراكَ"، و"ما" الأُولى، ابْتِداءٌ، وخَبَرُها "أدْراكَ ما الحاقَّةُ"، وفي "أدْراكَ" ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى "ما"، هو ضَمِيرُ الفاعِلِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى تَكْذِيبَ ثَمُودَ وعادٍ بِهَذا الأمْرِ الَّذِي هو حَقٌّ مُشِيرًا إلى أنَّ مَن كَذَبَ بِذَلِكَ يَنْزِلُ بِهِ مِثْلَ ما نَزَلَ بِأُولَئِكَ. و"القارِعَةُ" مِنَ السَماءِ: القِيامَةُ أيْضًا لِأنَّها تَقْرَعُ القُلُوبَ بِصِفاتِها. و"ثَمُودُ" اسْمُ عَرَبِيٍّ مَعْرِفَةٌ، فَإذا أُرِيدَ بِهِ القَبِيلَةَ لَمْ يَنْصَرِفْ، وإذا أُرِيدَ بِهِ الحَيَّ انْصَرَفَ، وأمّا "عادٌ" فَكَوْنُهُ عَلى ثَلاثَةِ أحْرُفٍ وساكِنَ الأوسَطِ دَفَعَ في صَدْرِ كُلِّ عِلَّةٍ فَهو مَصْرُوفٌ. و"الطاغِيَةُ" قالَ قَتادَةُ: مَعْناهُ الصَيْحَةُ الَّتِي خَرَجَتْ عن حَدِّ كُلِّ صَيْحَةٍ، وقالَ قَوْمٌ: المُرادُ: بِسَبَبِ الفِئَةِ الطاغِيَةِ، وقالَ آخَرُونَ مِنهم مُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى: بِسَبَبِ الفِعْلَةِ الطاغِيَةِ الَّتِي فَعَلُوها، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ما مَعْناهُ: "الطاغِيَةُ" مَصْدَرٌ كالعاقِبَةِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: بِطُغْيانِهِمْ، وقالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، ويُقَوِّي هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها﴾ [الشمس: ١١]، وأولى الأقْوالِ وأصْوَبُها الأوَّلُ؛ لِأنَّهُ مُناسِبٌ لِما ذَكَرَ في عادٍ إذْ ذَكَرَ فِيهِ الوَجْهَ الَّذِي وقَعَ بِهِ الهَلاكُ، وعَلى سائِرِ الأقْوالِ لا يَتَناسَبُ الأمْرانِ؛ لِأنَّ طُغْيانَ ثَمُودَ سَبَبٌ، والرِيحُ لا تُناسِبُ ذَلِكَ لِأنَّها لَيْسَتْ بِسَبَبِ الإهْلاكِ بَلْ هي آلِتَةٌ كَما هي الصَيْحَةُ. و"الصَرْصَرُ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن "الصَرِّ" أيِ: البَرْدِ، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن "صَرَّ الشَيْءَ" إذا صَوَّتَ، فَقالَ قَوْمٌ. صَوْتُ الرِيحِ صَرْيَرٌ، كَأنَّهُ يَحْكِي هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ. و"العاتِيَةُ" مَعْناهُ: الشَدِيدَةُ المُخالِفَةُ، وكانَتِ الرِيحُ عَتَتْ عَلى الخُزّانِ بِخِلافِها، وعَتَتْ عَلى قَوْمِ عادٍ بِشِدَّتِها. ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُما قالا: إنَّهُ لَمْ تَنْزِلْ مِنَ السَماءِ قَطْرَةُ ماءٍ إلّا بِمِكْيالٍ عَلى يَدِ مَلَكٍ، ولا هِبَّتْ رِيحٌ قَطُّ إلّا كَذَلِكَ، إلّا ما كانَ مِن طُوفانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ ورِيحِ عادٍ، فَإنَّ اللهَ تَعالى أُذِنَ لَهُما في الخُرُوجِ دُونَ إذْنِ الخُزّانِ. (p-٣٨٦)وَ"التَسْخِيرُ": اسْتِعْمالُ الشَيْءِ بِاقْتِدارٍ عَلَيْهِ، ورُوِيَ أنَّ الرِيحَ بَدَأتْ بِهِمْ صُبْحَ يَوْمِ الأرْبِعاءِ لِثَمانٍ بَقَيْنَ لِشَوّالٍ، وتَمادَتْ بِهِمْ إلى آخِرِ يَوْمِ الأرْبِعاءِ تَكْمِلَةُ الشَهْرِ. و"حُسُومًا" قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ، وأبُو عُبَيْدَةَ: مَعْناهُ: كامِلَةٌ تِباعًا لَمْ يَتَخَلَّلْها غَيْرُ ذَلِكَ، وهَذا كَما تَقُولُ العَرَبُ: "ما لَقِيتُهُ حَوْلًا مُجْرِمًا" قالَ الشاعِرُ: ؎ عَوازِبُ لَمْ تَسْمَعْ نَبُوحُ مَقامَةٍ ولَمْ تَرَ نارًا تِمَّ حَوْلٍ مُجَرَّمٍ (p-٣٨٧)وَقالَ الخَلِيلُ: أيْ: شُؤْمًا ونَحْسًا، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: حُسُومٌ: جَمْعُ حاسِمٍ كَجالِسٍ وقاعِدٍ، ومَعْناهُ أنَّ تِلْكَ الأيّامَ قَطَعَتْهم بِالإهْلاكِ، ومِنهُ: حَسَمَ العِلَلَ، ومِنهُ: الحُسامُ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "فِيها صَرْعى" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اللَيالِي والأيّامِ، ويُحْتَمَلَ أنْ يَعُودَ عَلى "دارِهِمْ وحِلَّتِهِمْ" لِأنَّ مَعْنى الكَلامِ يَقْتَضِيها وإنْ لَمْ يَلْفِظْ بِها. قالَ الثَعْلَبِيُّ: وقِيلَ يَعُودُ عَلى الرِيحِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في التَشْبِيهِ بِأعْجازِ النَخْلِ في سُورَةِ ﴿ [اقْتَرَبَتِ الساعَةُ]،﴾ [القمر: ١] و"الخاوِيَةُ": الساقِطَةُ الَّتِي قَدْ خَلَتْ أعْجازُها بِلًى وفَسادًا. ثُمَّ وقَفَ تَعالى عَلى أمْرِهِمْ تَوْقِيفَ اعْتِبارٍ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَهَلْ تَرى لَهم مِن باقِيَةٍ﴾، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ فِي: "باقِيَةٍ"- فَقالَ قَوْمٌ مِنهُمُ ابْنُ الأنْبارِيِّ: هي هُنا مُبالَغَةٌ كَعَلّامَةٍ ونَسّابَةٍ، والمَعْنى: مِن باقٍ، وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ أيْضًا: مَعْناهُ: مِن فِئَةٍ باقِيَةٍ وقالَ آخَرُونَ: "باقِيَةٍ" مَصْدَرٌ، فالمَعْنى: مِن بَقاءٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب